الحلقة رقم (٧) من رواية ستشرق الشمس ثانية :
تخرجَت مسعدة من كليةِ الطيرة للمعلمات بعد سنتين من دراستِها كمعلمة، وحصلت على دبلوم دارِ المعلمات، ثمَّ عملت مُدرسةً في مَدرسة إِناث مخيمِ الدهيشة للاجئين الْفِلَسْطِينِيِّين، في مدارسِ وكالة الغوث لمنطقةِ بيت لحم، بعدها بسنتين تخرجَت من جامعة بير زيت بدرجة بكالوريوس كيمياء، وعملت مُدرسا للصفوفِ الثانوية في مدرسةِ بيت لحم الثانوية للبنين.
تعلقتُ بمسعدة تعلقًا كبيرًا، حيث كنت شابًّا بسيطًا وفقيرًا، إِذ مضى على عملي كمدرسٍ للكيمياء في مدارس الحكومة سنتان بعد تخرجِي، وكنتُ أُحاولُ جاهدًا أَن أساعدَ والدي وأُسرتي الفقيرةَ على مصاعبِ الحياةِ وشقائِها بقدر المستطاع.
بادلتني مسعدة الحب والمشاعرَ نفسَها، فهي أَول حبٍّ في حياتي، وفي نظري هي جميلة الجميلات وأميرة الأميرات، رقيقةٌ جدًّا، ذكيةٌ، ظلها خفيفٌ، ضحكتها ساحرةٌ، تحتلُّ قلبي ووجداني، لا يفارقني طيفها ليلًا أَو نهارًا، فغدت أَميرةَ أَحلامي، ففي أَول لقاء لنا في دارِ الندوة، في مدينة بيت لحم، بعد تخرجنا من الدراسةِ، واشتغالنا في التدريسِ؛ قلتُ لها يومها:
- مسعدة، أنا موجوع كثير.
- شو بوجعك يا سعيد؟
- قلبي ثقيل، في جنية بتجنن ساكنة جواته، وكل ما بتتحرك بوجعني.
- ما تشكي وجعك إِلي، أنا ما بأفهم في الروحانيات.
- طيب شو بتنصحيني أعمل؟
- روح إشكي وجعك لدكتور شاطر.
- دليني عليه.
- ما إلك إلا أَبويا، أَشطر دكتور، علاجك عنده هو وبس.
- بجد الجد، أَنا مشتاق إلك كثير كثير يا مسعدة، وفي قلبي لوعات.
- وأَنا مشتاق إلك أَكثر حبيبي، يلا استعجل، وساوي لك همة، وروح إحكي مع أَبويا، وبعدها إِن شاء الله، رايحين انعيش أَجمل قصة حب صارت في زماننا.
بعد حديثنا هذا؛ وضعتني مسعدة في حيرةٍ كبيرة، وجعلتني أُفكر كثيرًا، فَأَنا غير جاهزٍ، وليس بمقدوري دفع تكاليف الخطبة والزواج حاليًّا، كَما أَن والدي عاملٌ بسيطٌ في ورشِ البناء، ويواجه صعوبةً كبيرةً في إِعالةِ أُسرتِنا، وفي الوقتِ نفسهِ لن أَسمح لنفسي بأَن أُضيع مسعدة أَو أُفرطَ بها.
بعد تلك المحادثة بيني وبين مسعدة باتت الأيامُ تمر ثقيلةً وبطيئة، وصعب الأَمرُ عليَّ كثيرًا، فصرتُ مقتنعًا بضرورة التقدم على الأَقلِّ؛ لطلب يدِها من أَهلها.
كانت مسعدة تصغرُ إخوتها وأَخواتها جميعًا، لها أُخت متزوجةٌ اسمها ربحية، وزوجها يدعى ربحي، ولها أَخٌ واحدٌ يُدعى موسى، وله زوجةٌ تُدعى ظريفة، افترضتُ ظاهرًا أَن مسعدة تعيشُ في دلال بين أَفراد أُسرتِها كونها آخر العنقودِ.
مضى وقتٌ كثيرٌ، ولم نتقدم في وضعِنا، فلا أَنا أَعلمتُ والديَّ عن رغبتي في طلبِ يد بنت جيرانِنا مسعدة، ولا تكلمتُ مع والدها.
في إِحدى العصاري؛ خرجتُ من منزلي إِلَى الزقاقِ، وصادفتُ عمتي صفية والدة مسعدة وهي تخرجُ من بيتها، تحملُ فوق رَأسِها منسفًا كبيرًا مملوءًا بالأَرز واللحم، وفي يدِها الأُخرى تحملُ سلة فيها إِبريقُ ماء، وإِبريق شايٍ، وأكواب، فلما رأتني في الشارعِ نادت علي:
- هي يا سعيد؛ تعال، إصلني شوي، اطلع عمك الحج ياسين اليوم بيشتغل في بنا دار سليمان محمد، وبيشتغل معو ثلاث عمال، والغدا علينا، بدي أَروح أوديلهم إياه، شو رأيك تروح تتغدى معهم؟
- ليش لا، من جاهيتي أَنا لهلكيت ما اتغديت، وجوعان كثير، هاتي يا عمتي صفية أَحمل عنك السلة.
- الله يسلم إيديك، خذها يا عمتي يا حبيبي، بتريحني، الله يرضى عليك يا سعيد.
حملتُ السلة، ومشيتُ إِلَى جانبها، وفي أَثناء طريقِنا، وقبل أَن نصلَ إِلَى دار سليمان محمد؛ قالت:
- والله يا سعيد يا عمتي، إذا بتيجي تطلب يد بنتنا مسعدة من عمك الحج، ما بنلاقي شب أَحسن منك عريس إلها، إنت بس ودي أبوك وأمك وشوف، المزبوط في ناس كثير حكوا فيها، بس والله أَنا حابة ما واحد غيرك يتحللها، شو رأيك يا عمتي في هالحكي؟
- أَنا بحصلي الشرف أَناسبكوا يا حجة صفية، والله مسعدة بنت مرتبة، إن شاء الله بأحكي لأبوي وأمي، وبأخليهم يجوا على داركوا، ويطلبوا إيدها من عمي الحج ياسين في أَقرب وقت.
- الله يجيب اللي فيه الخير يا رب، استعجلوا في الموضوع يا عمتي يا حبيبي.
صارحتُ والدتي عن رغبتي في الارتباطِ بمسعدة، وطلب يدها من أبيها، فقالت:
- والله يمه هذه البنت ما شفت أَجمل منها، وكمان إنتوا بتحبوا بعض من زمان، من وإنتوا صغار، بس والله يمه، إنو وضعنا المادي ما بساعد، في كمان شغلة متعبيتني، من ناحية خالك بدر الدين وعيلته، إنت بتعرف إنو هالمجرمين اليهود اجتاحوا لبنان، وزعيمهم هالمجرم أريئل شارون، الله يحرق قلبه، وبحاربوا في الْفِلَسْطِينِيِّين هناك هم والكتايب، اللي على رأسهم الشيخ بشير الجميل، شو بدهم يصيروا هالمساكين، والله ما دولة عربية واقفة معهم، كل العرب بتفرجوا علي ذبحهم، اليوم الصهاينة كل أوروبا وأميركا في ظهورهم، وبدعموا فيهم، أَما شعبنا يا حسرتي عليه، قاعدين اليهود بحرقوا فيهم، الله يقف مع مرة خالك محبوبة، ومع ولادها عايد وفداء وهدى، والله يمه روحي وقلبي معلقين معهم، على كلٍّ، أَنا بأحكي مع أبوك الليلة في موضوع خطبة مسعدة، وإن شاء الله بتكون من نصيبك يا بنيي، لا تحمل هم، إتوكل على الله.
بعدها بيومين، وبينما كنا جالسين على الأَكلِ، قالَ أَبي:
- والله يا جماعة الخير الشيء ما بخبي أوانه، مثل ما قال المثل: الزرع لما بستوي بقيص ، أَنا شايف إلكوا سعيد الله يرضى عليه، صار اليوم عريس، ولازم إنجوزه، أمك حكتلي يابه عن مسعدة بنت جيرانا، أنا شايف إنها بنت مستورة، وأَهلها طيبين، والله هذه أحسن بنت، الليلة يا سعيد إذا بتحب، بدنا إنروح أنا وأمك نطلبها من أَهلها، شو رأيك في هالحكي؟
- الله يخلينا إياك يابه، والله اللي بتشوفه مناسب ساويه، واللي بتقوله يابه، أَنا بَأمشي فيه.
جلستُ في البيتِ تغمرُني طاقةٌ كبيرةٌ من الأَملِ والفرحِ، تداعبُ كلَّ خليةٍ في كياني، أَلوان سحرية تنعكس من كل شيءٍ أُشاهده، اضطربتُ، وتوترتُ لبرهة، لم أَعرف ما الذي يجبُ عليَّ فعله، مرت عليَّ دقائقُ الانتظارِ وساعاتُه ثقيلةً وبطيئةً، إِلى حين عودة أَبي وأُمي من دار مسعدة.
عاد والدايَ فرحين ومتفائلين، يحمدان الله على نصيبي الرائع، ويكرران المديحَ والثناءَ علَى البنتِ وأهلها، وبشروني بموافقةِ والدايها على طلبي، وتبقى هناك أَشياء غير ذات بالٍ، وهي مشاورة إخوةِ العروس، فهذا يتطلبُ التمهلَ أَيامًا قليلةً، حتى تتمَّ إِجراءاتُ الخطبةِ والفرح.
أكثَرَت أمي من زياراتها إِلَى بيتِ عمي ياسين، وأصبَحَت تطيلُ الأَحاديثَ مع عمتي صفية، وتحثُّهم على الإِسراع في الموافقة وإِتمام الخطبة، في هذه الأَثناء عشت أَنا ومسعدة أَسعد الأَوقات، فبدأنا بالتخطيطِ للفرح، والتفكير في بناءِ بيتٍ لنا، وعدد غرفهِ، وشكله، وفي عدد الأَبناء الذين سننجبُهم، وأسماءِ الذكور منهم والإِناث، وما إِلَى غير ذلكَ؛ مثل سهرة الحناء، وليلة الزفاف، والرقصات، والأَغاني، وغيرها من الأُمور.
توالَت زياراتُ أُمي إِلى بيتِ عمي ياسين عبد القادر، وفي يومٍ من الأَيامِ؛ عادت وهي مغمومةٌ متكدرةٌ، فعرفت مباشرةً أَن هناك خطبًا ما، سألتُها عن سبب غضبها، فَقالت:
- اسمع يا بني، المثل بقول: "نيال اللي ما إلو في الحي نقمة"، هذا أَخوها الكبير موسى اللي راسه زي البطيخة الخربانة، ومرته زريفة الله لا يسعد مساهم ولا صباحهم، مش موافقين يناسبوك، بعدين أختها ربحية، هي الثانية، ما بدها إياك تتجوز أختها مسعدة.
- طيب ليش يمه؟ أَنا شو مالي؟ أَعور! مكرسح! ختيار بأريل على الخد!؟
- فشروا كلهم، بس هذا أخوها موسى باقي يقول: "باقي بين سعيد ومسعدة، علاقة حب قوية، يعني هذا سعيد إتحدانا، ووسخ سمعتنا، وفضحنا بين الناس"، وأُختها ربحية إنتا بتعرفها، هذي إنسانة فاضية بتحب الشكليات والمظاهر باقية تقول: "شو يعني أُستاز مدرسة! طز! هذا الأستاذ سعيد، رايح يظل طولة عمره فقير وشحاد، ومش رايح يقدر إعيش أُختي مسعدة في عيشة كويسة، هذي لازم إنجوزها لواحد غني، يبقى مقاول عند إسرائيل، أو من الْفِلَسْطِينِيّة اللي مهاجرين ع البلاد الغنية، مش ناقص علينا إلا أستاز مدرسة!
تعليقات
إرسال تعليق