أصدقائي الطيبين ، اليكم الحلقة رقم (١٣) من رواية ستشرق الشمس ثانية ، أتمنى لكم قراءة ماتعة :
اعتدتُ زيارةَ خطيبتي سهام نعمان كل يومِ خميس، وكنتُ أُجالسُ إِخوتها وأَخواتها، فعائلتهم كبيرةٌ وممتدة، ولهم كثيرٌ من الأَخوات والإِخوة والأَحفاد والحفيدات، كانت زياراتي ممتعةً وجميلة، فبعدَ كل زيارَةٍ أعودُ إلى بيتي سعيدًا، لاحظتُ أَن والد الفتاة أَشقر، وأَن خطيبتي تشبهه كثيرًا، ولا تشبه أُمها، التي تميل إِلَى اللون القمحي الأَسمر، ووجهها مدور.
كنتُ كلما جلستُ معهم أقوم بإِدارة الحديثِ، وأُبادر بالنقاشاتِ، أَما هُم قليلو كلامٍ ، كثيرو ضحكٍ، فكرتُ في نفسي بأَنهم أُناسٌ تغلبُ عليهم الطيبة والبساطة.
زادت مداهمةُ صورة مسعدة لدماغي، وخاصةً عندما أَضعُ رأسي على الوسادةِ في انتصاف الليالي، حينها تدورُ المقارناتُ والمفارقاتُ بين مسعدة اللماحة والذكية، خفيفةِ الظل والمرحة، صاحبة النكتةِ والذوق العالي، وصاحبةِ أجمل رائحة عطرٍ شممتُه في حياتي، أَتذكرُ العطورَ التي كانت تهديها لي بمناسبةٍ ودونَ مناسبةٍ، وحبها حنانها الذي كان كالنبع الصافي يسري في كل كلمةٍ من كلامها، وينساب عشقًا من أَحداقها، بينما أجدُ خطيبتي الحاليةَ سهام صفرًا أَو أَقل مقارنةً مع مسعدة، حينها يكتسحُني الهم والغم، فَأَتكدر وأَنام مغمومًا غير راضٍ عن هذه العروس، ظانًّا أَنَّني تسرعتُ في خطبتها.
رويدًا رويدًا؛ بدأتُ في مراجعة قناعاتي في خطيبتي سهام، فصارَت تتراكمُ في ذهني إِشاراتٌ غير مطمئنةٍ وغير مريحةٍ، ففي أَحيانٍ كثيرةٍ حاولتُ أَن أَعرف رأيها في بعض الأُمور، فلا تبدي أَي وجهة نظرٍ على ما أَطرحه عليها، وتأتيني ردودُ فعلها على شكل ابتساماتٍ أَو ضحكاتٍ، كذلك والدها السيد نعمان، فكلما تحدثتُ معه في موضوعٍ، لا يتوقفُ عن الضحك، ثم بدأت أَلمسُ طيبةً زائدةً، تقترب إِلَى العتهِ، وذلك بعكس أُمهم، فقد كانت منِ نوعٍ مختلفٍ، وطرازٍ آخَر، تتكلمُ بثقة، وتفكرُ في كل ما تتحدثُ به، تمتاز بذوقٍ رفيع، لكن أغلبَ أَبنائها وبناتها يشبهون أَباهم، ولم يأخذوا من أُمهم كثيرًا، فهم أَقرب إِلَى أَبيهِم منها.
بعد مضي عامٍ على خطبتي من سهام؛ صرتُ أَعتقد أَن عروسي مفتحةُ العينين، وعمياء البصيرة، فهي تنتمي إِلَى أسرةٍ مثيرةٍ، وحياتي ستكون صعبةً معها ومع أُسرتها، فصارحتُ والديَّ فيما توصلتُ إِليه من استنتاجاتٍ، ولكنهم رفضوا وجهةَ نظري بالتمام، وقال أبي:
- بدك تعرف يا سعيد، إنها سهام خطيبتك هذه، لو دخلت في مسابقات الجمال، لفازت بلقب ملكة الجمال، مش بس في فِلَسْطِين، وإنما ملكة جمال الوطن الْعَرَبِيّ كله، فهي كاملة مكملة، زين وعين، وما بنقصها شيء أبدًا، بس العيب فيك إنت، لأنك بتظل إتقارن فيها مع عروستك الأولانية مسعدة، الله يرضى عليك اهدأ، ولا تسويلنا كل يوم عرس مع وحدة.
- يابه ويمه، اسمعوني امليح، أنا متأكد إنها رايحة تكون عبقرية في كل شيء، ما عدا دماغها.
- إنت جننتنا يا سعيد، هو إنت بدك تتجوز دماغها!
- المثل بقول من برة هالله هالله، ومن جوة يعلم الله.
وبعد نقاشاتي مع أُمي وأَبي؛ قررتُ أَن أَختبر وجهةَ نظري تجاه سهام وأُسرتها لآخر مرةٍ، قبل أن أَتخذ أَي قرارٍ خاطئٍ غَير عادل، ففي آخر زيارةٍ لي إِلَى بيتهم؛ فتحتُ مواضيعَ كثيرةً معهم، ووجهتُ لهم بعض الاسئلة البسيطة، على سبيل المثالِ لا الحصر، سألتهم بطريقةِ الفكاهة:
- شو رأيكم يا جماعة الخير في صديقي اللي ما بعرف ثلث الثلاثة كم؟ يا ترى من منكم بعرف ثلث الثلاثة كم يا حلوين؟
جميعهم انتابتهم لوثة ضحك، فاعتقدتُ للحظاتٍ أنني مهرجٌ، وهم يسخرون مني، ثم أجاب والد سهام:
- هههههه يخرب بيتو صاحبك هاظا، ما بعرف إنو ثلث الثلاث ثلاث، هههههههه.
- وإنت شو رأيك يا حبيبتي سهام؟
- يخرب بيتو صاحبك، ما في أسهل من هالسؤال يا سعيد، وجوابه أسهل، ثلث الثلاث مثل ما قال أبويا، ههههههههههه.
لفت رأسي ودارت، وشعرتُ بضغط قويٍّ في رأسي، وفي أُذنَيَّ من الداخل والخارج.
- طيب، بهمش إتحملوني يا نسايبي، واحد ضرب واحد، اثنان ولا اثنين؟ اللي بعرف منكوا الجواب يرفع أصبعه.
ضحك الجميعُ بصخبٍ، ورفعوا جميعًا أَصابعَهم دون استثناء؛ الذكور والإناث، فقلت:
- بدي أَبوكم يجاوب أول واحد فيكوا، لازم جميعنا نحترمه ونقدره.
- اسمع يا سعيد، أنا ما بأعرف في الحساب، بس أنا من رأيي واحد في واحد يساوي اثنان مش اثنين، ولا شو رأيكوا إنتوا يا ولاد؟
- هههههههههه مزبوط، مثل ما قلت يابه بالزبط.
اعترضت والدة سهام وقالت:
- كلكوا إخطيتوا، واحد ضرب واحد بساوي واحد، مش اثنان أو اثنين، سعيد بتسلى فيكوا.
هنا أَدركتُ كم هي مظلومةٌ حماتي مع جميع أَفراد أُسرتها.
تحدثتُ مع والدي بعد ذاك النقاشِ البسيطِ مع صهري وأَفرادِ أُسرتِه، فقرر أبي أَن يعجل في إِتمام الزواج، وينهي موضوعي؛ لأَن إِطالة فترة الخطوبة في بلادنا عادةً ما تكون سببًا للمشاكل، قررت أَن أُجاري مطلب أُمي وأَبي، وأَن أَرضى بنصيبي، وأَتزوجَ سهام نعمان على مضضٍ، وفوضت أَمري إِلَى الله.
قبل موعد زفافنا بأُسبوعين؛ فجعتُ بخبر وفاة حماتي أُم سهام بجلطةٍ في دماغها، حيث تم نقلها إِلَى مشفى هداسا عين كارم، وهناك توفيت رحمها الله.
ذهبنا أَنا وأُمي وأَبي إِلَى دارِ خطيبتي في قرية (س ص) بمنطقة القدس، لحضورِ مراسِم دفنِ المرحومة، فوصلنا الساعةَ الثانية عشرة ظهرًا، وقد تم إِحضار الجثمان، كان الكل يبكي وينوح، وبناتها يلطمْنَ على خدودهن، ويمزعن شعرَهن، والأَبناء يبكون، والكل يودع ويقبلُ المرحومة.
قرروا أَن تُدفن الفقيدةُ الساعة الخامسة في مقبرة القريةِ؛ وذلك لإِعطاء فرصة للأَقارب البعيدينَ لِحضورِ دفنها، ومن خلال أَحاديثي مع خطيبتي سهام بين الوقت والآخر؛ لاحظتُ أَنها من أكثر إخوتها وأَخواتها حزنًا على أُمها، ولم تبتعد عن جثمانِ والدتها، وبين الحين والآخر تطوقُ وجه أُمها، وتقبِّلُ جبهتها وخدودها، وكذلكَ يفعلُ جميع الأَحفاد والأَولاد، لم يتوقفوا واحدًا تلوَ الآخرِ عن توديعِ المرحومةِ، وتقبيلِ وجهِها جيئةً وذهابًا، اقتربَ موعد حمل المرحومة على أَكتاف الرجال، أَي حوالي الساعة الخامسة إِلا خمس دقائق، وإذ بوالدتي تُشير إِلي بيدِها، فذهبت إِليها، فَقالت:
- سعيد يمه، أنا تأملت في وجه الميتة، يا ابني هذه ما بتشبه وجه نسيبتك، الله أعلم إنه الجثمان لميتة غيرها، إحكيلهم يا بني يستنوا شوية، في إشي غلط!
- شو بتقولي يمه! إنت متأكدة من هالحكي؟
- أيوة يمة، خلي ولادها يجوا يتأكدوا من أمهم.
تحدثت مع صهري أحمد، وأبلغته أن يتأكدوا أن هذا جثمان والدتهم، توجه جميع أبنائها إِلَى الميتة، وكشفوا عن وجهها، وصاح أحدهم بصوت عالٍ:
- هذه مش جثة أمنا، يلعن.. ويلعن.. وجه هذه الميتة صغير وأَشقر، وحواجبها شقرا، وأَنفها أَحمر صغير، أما وجه أمي أكبر وأسمر وعيناها أكبر، ومنخارها أكبر ومدور، لحظة، لحظة من فضلكم، وقفواااااااااااا، بترجاكم بترجاكم استنوا ما حدا يدخل!
تدخل ابنُها عمر، وقال:
- إكرام الميت دفنه، هذه هي أمنا، بس الموت غير شكل وجها.
فرد عليه أخوه أحمد:
- ولكم هذه الميتة مش أمنا، هذه وحدة غير إمكوا يا ولاد الـ..
تقدمت إحدى بناتها، وحدقت في وجه الميتة وصاحت بلوعةٍ:
- يا بييييييي، هذه مش ستي، هذي مش إمنا، هذه مش إمنا يا هبل، هذه مش إمنا يا هبلان.
تراجع الجميع عن حمل الجثمان، وتوقفَ الرجال ولم يدخلوا، حينها التم الكثيرُ من أَقاربها حولها، ثم أَكدوا أَنها ليست ميتتَهم، وليست أُمهم، وهذا الجثمان لإِنسانةٍ غريبة.
حملوا الجثمان، واتصلوا عبرَ الهاتف بمشفى هداسا الإِسرائيلي، وذهبنا لإِرجاع جثمان الميتة، وهناك دخلنا على قسم ثلاجات الموتى، وتعرفوا إِلى جثمان والدتهم، وتبينوا أَن الجثمان الأَول الذي أَوسعوه لثمًا وقُبَلًا، يعود إِلَى امرأةٍ يهوديةٍ شقراء من أصلٍ بولندي، حينها على الفور تذكرتُ أبيات الشاعرِ أَبي العتاهية، التي يقول فيها:
وفرز النفوس كفرز الصخور ففيها النفيس وفيها الحجر
وبعض الأنام كبعض الشجر جميل القوام شحيح الثمر
وبعض الوعود كبعض الغيوم قوي الرعود شحيح المطر
وكم من كفيفٍ..بصير الفؤاد وكم من فؤادٍ..كفيف البصر
وخير الكلام قليل الحروف كثير القطوف بليغ الأثر
فوقفت بجانب والدي وهمست في اذنه:
- يابه، لأكثر من أربع ساعات، وأصهارنا الصغار منهم والكبار، رجالهم ونسوانهم، يبوسوا وجه امرأة يهودية ميتة، جميع أقارب المرحومة غسلوا وكفنوا وودعوا ميتة يهودية، وكل بلدهم ما قدروا يتعرفوا على ميتتهم! أمي فقط هي اللي كشفت إنها الميتة يهودية، شو رأيك يابه في هالحكي؟ أَنا بعد إذنك يابه، بأرفض إني أزرع منهم، وبأرفض مصاهرتهم، فتولى أنت يا أبتي جميع أمري.
بعد تفكيري جيدًا بموضوع خطيبتي سهام؛ تأكدتُ أَن اتخاذَها شريكةً لحياتي لا يستقيم، فهي إنسانةٌ جيدةٌ، ولكنها بسيطةٌ جدًّا، ولا أَستطيع أَن أَقضي حياتي وعمري معها، فأنا أُريد زوجةً لها عقل أُنثى لامع، أتشارك معها الحياةَ بحلوها ومرها، وتعينني في السراء والضراء على مصاعب الدهر، أَما سهام فهي مفتوحة العينين، مغمضة البصيرة، بعد شهرين من وفاة والدتها؛ تواصل والدي مع أَعمام سهام وأقاربها، واتفقوا على انفصالنا عن بعض ، بعد مضي عامين على خطبتنا ، مع تنازلي عن كل ما أَحضرتُه لها من مصاغٍ ذهبي وغيره .
تعليقات
إرسال تعليق