أصدقائي الطيبين هذه الحلقة رقم (٨) من رواية ستشرق الشمس ثانية ، أتأمل أن تمتعكم وتنال اعجابكم :
يعني بالْعَرَبِي، لو إنك غني بوافقوا عليك إنك تتجوز أختهم، وما برفضوك.
- وهلكيت يمه، شو بدنا انسوي؟
- والله يمه اللي فيه الخير الله يجيبه، بدي منك إطول بالك، وما تتسرع، بعدين خف رجلك عن الرواح عليهم، تنشوف كيف هالأمور بتمشي، بعدين زي ما بقول المثل "اللي بريدك ريده، واللي بطلب الجفا زيده".
- بس يمه أنا بحب مسعدة ورايدها، وهي ريداني، وأنا ما بتخلى عنها أَبدًا، إلا إذا هي إتخلت عني، وما بدها إياني.
أَرسلتُ أُختي سامية الصغيرة في طلبِ مسعدة، جاءت مسعدة مسرعةً إِلَى منزلنا، وتناقشنا في أَمر أخيها وأُختِها، ومعارضتهم لمصاهَرتي، قالت مسعدة:
- والله أَنا ما بَأعرف، ليش هالناس الفضوليين بظلوا يدخلوا في شؤون غيرهم، وبيحشروا مناخيرهم في كل إشي، أَنا ما بتنازل عنك يا سعيد، أنا حرة في إني أَختار الإنسان اللي بناسبني وأَتجوزه، وكمان أَبوي وأمي واقفين معي، هذي أختي ربحية وجوزها ناس مريضين، وبعبدوا الفلوس عبادة، وناس شكليين، بحبوا الفشخرة والمظاهر ولو على خازوق، فيش إشي في هالدنيا عندهم أهم من المصاري والفلوس والذهب والهدايا، ومستعدين يبيعوا كرامتهم بس منشان الفلوس، يا عمي هذول في لجيرانهم دار خليل حسين، ولد مغترب في دولة من الدول الْعَرَبِيّة الغنية، ما بأعرف شو اسمها، وهذا الشب اللي هو محمد ابن خليل حسين، الله فاتح عليه، وبكسب مصاري بهبل من هناك، هلكيت كل فترة ببعث لأَهله مصاري، فصار وضعهم فوق الريح، بنوا فيلا في حارة الشيخ، وشروا سيارات، ويعني حالتهم صارت ما شاء الله غير شكل.
- بتعرفوا يا جماعة؟ هذا الشب اللي اسمو محمد خليل حسين، أنا وياه كنا ندرس في نفس الصف مع بعض، والله ما بقى يعرف الطمس من الخمس، بقوا المعلمين يظلوا يعاقبوا لأنه فاشل، مش تبع قراية وتعليم، بقى دائمًا بس يهتم بتسريحة شعره، ويهتم بلبسه، وبالتشخيص، وترك المدرسة من الصف الثالث إعدادي؛ لأنه بقى يرسب كل سنة، بس شوفوا شو صار وضعه هلكيت! مصاري كثير، وقدر إنه يغير وضع أهله مية وثمانين درجة، سبحان الله! أما أنا اللي بقيت من أوائل الطلاب، شوفوا لوين وصلت، صرت معلم مدرسة، وما إتغير على حالي حال، يدوب قادر أمَشي حالي، اللهم لا حول ولا قوة إِلَا بالله، اللي بقى ما يحفظ سورة الفاتحة صار وتصور، أما أنا خريج بكالوريوس كيميا، ومن أرقى الجامعات في البلاد، جامعة بير زيت، أنا يدوب قادر أعيش! في أغلاط كثيرة في مفاهيم أبناء مجتمعنا الْفِلَسْطِينِيّ، وفي ثقافتنا!
- ولك يا سعيد، هذه المشكلة مش بس عندنا إحنا يا الْفِلَسْطِينِيِّين، وكمان هذه مشكلة عند كل المجتمعات الْعَرَبِيّة، اليوم الناس ما بدوروا على العلم وعلى الأخلاق، اليوم الناس بتدور على الفلوس، وعلى الشكليات والكماليات والمظاهر الفاضية، على شان هيك إحنا مش قادرين نتقدم مثل الشعوب المتقدمة.
قالت مسعدة، وأَضافت:
- اطلعوا يا جماعة، في كل مرة برجع فيها هذا الشاب محمد من برا، من البلاد الي بشتغل فيها، يا الله شو بجيب معه هدايا! هدايا بتوخذ العقل، بجيبها لأهله ولقرايبه! ومرات كثيرة بجيب هدايا بتجنن لأختي ربحية وجوزها، هذول مبخوعين في مجاييب الشب، المهم هذه أختي ربحية وجوزها الله يهديهم، طمعانين في فلوس محمد خليل اللي ببعتها من شغله اللي بشتغل فيه، كمان بحاولوا يخلوا هذا محمد، يوخذ ابنهم أحمد معه هناك، في الدولة اللي هو بشتغل فيها، على شان يصير مثله هيك، هذول الجماعة بدهم يعملوا مني عربون لصداقتهم مع بعض؛ لأنهم بعبدوا مصاريه، فأختي ربحية وجوزها اتفقوا مع زريفة مرة أخوي موسى، وقرروا مع بعضهم، إنهم يمنعوا زواجنا من بعض، وبدهم يعطوني لابن جيرانهم الغني، شو قالت أختي ربحية لأمي وأبوي: "هذا سعيد اللي بدكوا تناسبوه شحاد، أستاذ مدرسة لا راح ولا أجا، شو جاب لجاب الشحاد سعيد للمليونير محمد خليل حسين، المغترب في بلاد العرب الغنية!
- يا الله! هم بقولوا عني هيك! أَنا شحاد؟ طيب هلكيت صار معلم المدرسة كوخه وشحاد! والله هالدنيا بتحير، ليش هالظلم؟ صار الأستاذ ما إلو قيمة في بلادنا، أما التنابل، واللي أخلاقهم فاسدة، والشاذين، والحشاشين، وبياعين الأَرض لليهود، أو أذناب الاحتلال اللي بسعوا للإيقاع بالشرفاء وإسقاطهم، واللي بعملوا في شرطة الاحتلال الإسرائيلي ضد أبناء شعبهم، فهم اللي صاروا وتصوروا، اليوم هم الأفضل والأَحسن، وهم اللي بقولوا، وهم اللي بشوروا، وهم اللي ماسكين القضا والمشا والحل والربط في بلادنا، وهم اليوم وجوه ووجهاء البلاد.
- ما فشروا يمه، والله الفهم والأَخلاق اللي ربيناك عليها بسوِن كل مصاري الدنيا، ولا تهتم يا حبيبي، بعدين والله لوماك أَصيلة يا مسعدة، وإحنا متاجرين فيكي، لنجوز سعيد أَحسن وحدة في فِلَسْطِين، على شو هم بتشخرطوا؟
- هلكيت شو لازم إنسوي يمه ويا مسعدة؟
- والله أنا رأيي يا بنتي يا مسعدة، الليلة الجاية، لازم إنفزع على دار أبوك ناس كثير، وما بنسمح لحدا يوخذك منا، من ونتوا إصغار وإحنا متفقين هذه مسعدة لسعيد وبس، إحنا مش ولاد صغار بقدمونا وبأخرونا، يا عيب الشوم، يا خسارة على العشرة والجيرة.
- إمليح يا عمتي معزوزة، هذا أَحسن رأي، وأَنا معكوا على طول، لا يمكن أتجوز هذا الإنسان ولو على جثتي، ولو ذبحوني، ما بأوخذ إلا سعيد، أنا يا مسعدة لسعيد وبس.
في اليوم التالي؛ اصطحبَ والدي جاهةً مكونةً من عشرين رجلًا من بعض الوجهاء، وبعض أقاربِه، وتوجهوا إِلَى دارِ والدِ مسعدة، وتحدثوا معهم، وضغطوا عليهم للموافقة على خطبتي من مسعدة، استمرت المفاوضاتُ، والأَخذ والعطاء حتى مطلعِ الفجر، وأَخيرًا وافقَ والدُ مسعدة؛ الحاج ياسين العراقي، على تزويجي من ابنتِه مسعدة؛ شرطَ أَن يتم الزواجُ خلال عشرة أَيامٍ بالكثير، باعت أُمي بعضَ مصاغِها، ودفعوا المهرَ، وجهزوا العروسَ، وفي الأُسبوع التالي تم عقدُ القران، وبدأت الأَفراحُ في بيتنا وحارتنا، وأُضيئَت الأَنوارُ، وعُلقت الزينة، الرجال يدبكون الدبكة الشعبية، ويرقصون السامر، والنساء يرقصن ويغنين، الكل فرحان وسعيدٌ لفرحَةِ مسعدة وسعيد.
لم أكن أُصدق أَن الأُمورَ سارت بهذه السهولةِ، وقبلَ حفلِ الحناء بلَيلةٍ واحدةٍ؛ كنتُ سعيدًا مُحلِّقًا في سماءِ الفرحةِ، فنمتُ في ساعةٍ متأخرةٍ من ليلة الثلاثاء، وأَنا مأخوذٌ بتلك النجمةِ البعيدة التي ستهبطُ من السماء، قمتُ بالتأكدِ من جهوزية قلبي لاستقبالها، فقررت أَن أَتفقدَ بعض التفاصيل، فمشيتُ في شوارعِه مع الغسقِ قبل زوالِ الشمس، ومررتُ من حدائقَ تفوحُ منها رائحةُ الجوري والياسمين، وتنبعثُ للأعالي؛ لتقترب من الغلافِ الجوي للكرة الأرضية كغيمةٍ مليئةٍ بالعطر الفواحِ تلتفُّ حولَ عروسي، ثم رأيتُ أسرابًا كثيرةً من الحمامِ الأبيض، تنطلقُ نحو الفضاء لترافقَ حبيبتي مسعدة لحين اللقاء، وكم ذهلتُ عندما طارت فراشاتٌ ملونة بكل الأَلوان، وبحجم القلوبِ الكبيرةِ، تنبضُ ابتساماتٍ وفرحًا لتستقبلَ تللك النجمة، لتحطَّ فوق تلالِ الشوقِ وأحضانِ الغرام، وعلى رأسي طربوش أحمر سِحري، وقفطان له أكمامٌ من الماس، تنبعثُ منه إِشعاعاتٌ ترحبُ بتلك النجمة، أَلبسُ سروالًا من زمن السلاطين والأُمراء، وخفًّا له رأسٌ مدببٌ، تفيض منه أَمواجٌ من السحرِ تحملني، وتحلقُ بي في كل الأرجاء، حينها حمدتُ ربي على هذا العَطاء.
انتظرتُ برهةً قصيرةً وطويلةً من الزمنِ، ومن الفراغِ، ومن الوجودِ، وفجأةً تحولتُ إِلَى إِنسانٍ عارٍ من كل شيءٍ، عارٍ من الوهمِ، من الخيال، أُعاني فقدَ الهواء، والدفء، والماء، أُعاني ألمَ الجوعِ، وأسيرُ في طريقٍ طويلٍ، وكلما مشيتُ أَكثر، تجذبُني رائحةُ شواءٍ شهية، فيسيلُ لعابي من فمي، وأَضغطُ بكفِّي على معدتي، التي تحاصرُني وتؤلمُني من كثرةِ الجوع، وأهُمُّ أَكثر في المسيرِ، وكلما اقتربتُ من الجمعِ الذي يأكلُ الشواءَ؛ تؤلمُني معدتي، وتضربني شهيتي بسياطِ الجوع، وكلما اقتربتُ أَكثر من الشواءِ؛ يبتعدُ عني أَكثر وأَكثر، فَأَنهكتني أَقداري، وأَتعبتني خطواتي، ومشيتُ ومشيت، ولكني أُصِبتُ بالتعبِ والإِرهاق والإِعياء، فسقطتُ شاكيًا للطينِ حالي، فأخبرني أَن هذا الشواء لِأُناسٍ شبعوا بعد جوعٍ، وهم يدركونَ حاجتَك للطعام، ولكنهم لئامٌ، ويعاقبونَك برائحة الشواء، فجأَةً؛ استيقظتُ من هذا الكابوس، ووجدتُ حلقي يضربُه الجفاف، ويبللُ وسادتي زبدٌ كثيرٌ، وقفتُ على أَرجُلي، وشربتُ كأسَين من الماء، لِأُدركَ معاني هذه الرؤيا الغريبةِ، وبقيتُ مستيقِظًا حتى مطلع فجرِ الأَربعاء، ولا أَعرفُ لماذا قفزَت في ذهني هذه الأبياتُ التي ردَّدتُها طوال ساعاتِ النهارِ؛ وهي:
ليلة أربعاء
مغيب شمس،
زفة رجال ونساء
فرح، رقص
أناشيد أندلسية، وغناء
عروسة
تنتظر بصبر حفلة حناء
مسعدة بفستانها
حمامة بيضاء
وردة جورية
تملأ رياحينها الفضاء
أحداقها
ترسل فرحًا حبًّا وأضواء
تناجي روحي
باستحياء
حورية بحار
معلقة من الأثداء
في رحم غيمة حيرى
حبلى بحياة غناء
روحها تبحث
عن روحي من علياء
إِشارات أَسرار أَسحار وعناء
ومشاعل برق تنذر
بصواعق ورمضاء
وقعقعة رعود
تتأهب في الخفاء
لتكتب فوق خيمة فرحي قصيدة رثاء
قلت: يا زماني
أَنا ومسعدة سعداء
تبسم بسخريةٍ
ثم قال:
لا حظَّ لكم عندي معشرَ الفقراء
تعليقات
إرسال تعليق