بقلمي # أ. فوزي نجاجرة #
من فلسطين
قصة قصيرة
يوم من طفولتي
عندما انهيت الصف السادس ابتدائي في بداية شهر حزيران لعام ١٩٧١م ، وفي اليوم الثاني لعطلتنا المدرسية الصيفية ، حيث كنت في الثانية عشرة من عمري، سمعت عن مقاول يدعى مطاوع يعمل في قطف البندورة في مزارع المستوطنين اليهود ، ويشغل الاطفال والنساء معه . توجهت اليه وسألته ان يشغلني معه ، فطلب مني ان أمشي أمامه الى الأمام والتفت الى الخلف حتى يختبر قوامي البدني ، مشيت كما طلب مني ، فوافق على تشغيلي معه ، سجل اسمي وطلب مني أن أحضر الى بيته غدا مع أذان الفجر . اليوم التالي سريت قبيل الفجر، متوجها الى ساحة بيته ، فوجدت ما لا يقل عن أربعون طفلا وامرأة يحتشدون أمامه ، حضرت شاحنة زرقاء كبيرة ، ركبنا جميعنا وقوفا في صندوقها الكبير تلفنا عتمة الليل التي ما زالت جاثمة .
انطلقت الشاحنة بنا من قرية ( س) في منطقة بيت لحم وسط فلسطين متوجهة نحو السهول الداخلية الغربية منها ، الى منطقة المسمية المهجرة عام في عام ١٩٤٨م ، التي كان يمتلكها ويسكنها دار العزة ودار الحوراني قبل التهجير، وهي تتبع منطقة أسدود وعسقلان وغزة اداريا زمن الانتداب البريطاني لفلسطين . كانت الساعة السادسة صباحا، عندما أنزلنا المقاول مطاوع في سهل كبير أخضر، من أخصب السهول التي شاهدتها في حياتي ، فأينما أجلت بناظري، كنت أرى نبات القطن الأخضر اليانع ، كذلك البندورة ،عباد الشمس والذرة، بمساحات شاسعة رحيبة على مد البصر وتملأ الأفاق . رأيت مستوطنا شابا يهوديا قمحي البشرة، قامته طويلة، عريض المنكبين ومبرزا عضلاته واقفا ينتظر وصولنا، ومن نظرتي الأولية لملامحه، استشعرت انه شخص استفزازي وغير مريح ، عرفت لاحقا أن أسمه أيلي من أصول عربية مغربية .
كانت الشمس في عز ضحاها حامية لهابة ، الرطوبة عالية جدا ، وأنا غير معتاد على هذا الجو ، وهذا كان اليوم الأول الذي أشتغل فيه بالأجرة مع الناس، فما اشتغلت قبله أبدا . أعطى مطاوع كل شخص دلوا بلاستيكيا كبيرا يتسع لعشرة كيلو غرامات ، وأمرنا ان نقطف البندورة بجد ونشاط ، بدأنا صباحنا بالعمل بهمة عالية ، كنت املأ الدلو خلال أقل من خمسة دقائق ، بدأت الحرارة ترتفع ، والعرق صار ينز من كل خلايا جسمي ، ومع هذا أواصل العمل بكل نشاط .
حيث دارت عجلة الشغل ، وكل الأطفال الصغار والنساء كذلك يعملون بجد، بدأت أسمع بين الحين والأخر صراخات بعض الأولاد أو النساء وصياحاتهم العالية :
_ ( أاااااااااااي يا راسي ،أااااااااااي يما يا عيني....... ، أااااااااااي يابا يا وجهي ...... اأاااااااااااي يا ظهري......) .
وقفت واذ بي أشاهد المستوطن الصهيوني، صاحب مزرعة البندورة، كلما رأى أحد يقف، يقوم يضربه بحبات البندورة الصلبة كالحجر، في رأسه وظهره ووجهه بكل قوته ، وهو يصيح ويبكي ، سألت ولدا قريبا مني ، قال :
_( اهبط يا قيس وواصل شغلك ولا تلتفت لغيرك والا ......) .
كان معنا ولد اكبر عمرا وجسدا منا جميعا يدعى عاصف ، فأثناء تغيب اليهودي وقف وقال :
_ اسمعوا يا أولاد ، لا يمكننا تحمل هذا الوضع ، فالمستوطن يتلذلذ بتعذيبنا ، ويضربنا بغير رحمة بحبات البندورة ، أرجوكم ان تقفوا موقفا موحدا ، فاذا ما قام بضرب أي واحد منا ، يجب علينا جميعا أن نقف مع بعضنا البعض، ونضربه بكل قوتنا، أو على الأقل نتوقف ونرفض العمل معه ومع مطاوع ، ماذا تقولون يا رفاق في هذا الكلام ؟
الجميع أثنى على كلام عاصف وأيده بشدة ، والجميع استعدوا لمواجهة المستوطن صاحب العمل . اقتنعت بكلام عاصف ، وتأججت نارا هائلة داخلي ضد المستوطن ، وأقسمت بيني وبين نفسي، اذا اعتدى على أي واحد من الاولاد أو النساء سوف أضربه بكل قوتي ولا أتوانى مهما كانت النتائج .
بعد ساعتين من العمل استعطت وكذلك غيري من الأولاد بتعبئة صندوق كبير سعة طن بندورة ، أي حوالي ألف كيلو غرام لوحدي، يعني كمية كبيرة جدا بالنسبة لطفل صغير مثلي لم يتجاوز الأثني عشر عاما بعد . بعد برهة قصيرة رجع المستوطن ، ومباشرة عاود ممارسة أفعاله وهوايته الساديه العنصرية بضرب الاطفال والنساء العرب ، وهم جميعا يبكون ويتصايحون ، وقفت ورميت الدلو، نظرت اليه بتمعن وتحدي ، انتبه الي وحدق بي مستغربا وقال باللغة العبرية :
_ ( تعبود يا كيلب) أي ( اشتغل يا كلب ) .
_ ( أتا كليب بن كيلب ) أي ( أنت كلب ابن كلب ) .
مباشرة هاجمني بكل قوته بحبات البندور ، ركضت سريعا نحو صندق البندورة الذي ملئته للتو، وانهلت عليه ضربا بحبات البندورة من مسافة عشرة أمتار في وجهه ورأسه وصدره وحثما تمكنت منه ، مع حرصي على عدم الاقتراب منه ، وفي الأثناء كنت أصيح وأنادي :
_( يا عاصف ...عاصصصصصصصصف .... يا محمد...... يا علي علللللللللي ....وينكم ؟ يلا اهجموا على الكلب ، اضربوا معي ساعدوني دخيلكم ساعدوني.... .... )
نظرت حولي بشكل سريع الى رفاقي ، فلم اشاهد أحدا منهم يقف أو يرفع رأسه ، جميعهم كانوا خافضي رؤوسهم ويشتغلون بكل قوتهم في قطف البندورة أكثر من ذي قبل وكأن شيئا لم يكون أو يحدث . فاليوم لا غائم ولا عاصف ولا متخاذل أو قاصف ولا هايف أو نايف ولا جاهل ولا عارف ولا جالس أو واقف ولا أي شجاع أو جبان تافه وقف معي، وأعانني ضد المستوطن الشرير ، رأيت المستوطن مد يده الى جنبه ليلتقط مسدسه من جعبة حزامه ليقتلني، بينما المقاول مطاوع يبكي ويبوس ذقنه ، يترجاه ويتوسل اليه بأن لا يقتلني .
استجاب اليهودي أيلي الى توسلات مطاوع وبكائه ، أعاد مسدسه في غمده ، وقال لي :
_ واصل شغلك يا ( حمور) أي يا( حمار) .
_ أنا لن أشتغل معك أبدا ، أنت وكل المستوطنين والمقاول مطاوع وكل رفاقي حمير وأولاد كلب .
وأطلقت العنان لقدماي ، أركض بسرعة سيارة اسعاف في سهولنا الفلسطينية الخضراء المحتلة ، تاركا الشغل ومطاوع وكل رفاقي الأولاد ، التفت واذ بالمستوطن يتبعني جريا بكل قوته ، يطلق النار خلفي وصوبي ويلاحقني ومطاوع يتبعه، طاقة هائلة انبعثت داخلي ، وأسرعت أكثر في الجري، محاولا التوجه نحو أي جهة توصلني الى شارع مئهول . بقيت أركض لأكثر من ساعتين في لهيب شمس حزيران المحرقة ، حتى كادت قدماي ترفض الاستمرار، ثم أتابع المشي قدر استطاعتي، فجأة التفت خلفي واذ بمنظر المستوطن يتلاشا ويغيب كليا .
أخيرأ وصلت شارعا يضج بحركة السير والمركبات ، شاهدت شاحنة كبيرة من الشاحنات التي تنقل رمال البحر تقترب مني، ومن ملامح السائق توقعت أن يكون عربيا ، فأشرت اليه على عجل بكلتا يداي ، واذ به يوقف شاحنته ، قلت له:
_ خذني معك اذا سمحت .
_ انا مسافر الى مدينة الخليل .
_ المهم أن تخرجني من هذه المنطقة .
_ تفضل اركب .
صعدت الى جانبه فورا ،.
_ أنا من منطقة بيت لحم وأسمي قيس .
_ انا من سكان مدينة غزة واسمي علي ، انا أنقل الرمل الى احد ورشات البناء في مدينة الخليل ، وسأحضر معي بالمقابل شحنة حصمة بدلها الى غزة ، لأنه لا يوجد عندنا كسارات حجارة في قطاع غزة .
تحدثنا كثيرا وقليلا مع بعضنا خلال ساعتي السفر حتى وصلنا مدينة الخليل، عرفت أنه انسان شهم طيب القلب ، فقد غضب كثيرا على مطاوع وعلى اليهودي وعلى رفاقي الاطفال وشتمهم جميعا ، قبل نزولي من شاحنته، عرضت عليه نقودا اجرة نقلي فرفض رفضا باتا أن يأخذها، وقال لي:
_ اذا انت محتاج للنقود قل لي ولا تخجل.
_ أشكرك جزيلا عمي علي ، ربنا يقدرني على معروفك ، الى اللقاء صديقي علي الطيب .
من هناك ركبت احدى حافلات الخليل المتوجهة الى مدينة القدس الشريف فقريتي ، كانت الساعة الثالثة عصرا بالضبط عندما دخلت باب بيتي و........
تعليقات
إرسال تعليق