فوزي نجاجرة من فلسطين
لمتابعي رواية أمضي أم أعود ؟؟؟ الحلقة رقم (٨)
الفصل الثالث
بعد ظهيرة يوم عيد الأم ، الذي يصادف يوم الواحد والعشرين من شهر أذارمن كل عام ، كان الجو لطيفا جدا، بداية فصل الربيع، قرر ثلاثة من أصدقاء وسيم الأوفياء، التوجه لزيارة والدته خديجة ، وتقديم باقة ورد لها بمناسبة عيد الأم، فهم يعتبرونها بمقام ام لكل واحد منهم ، ولما اقتربوا من بيته ، سمعوا صيحات واستغاثات امرأة تنبعث، كلما اقتربوا اكثر تزداد الصيحات والاستغاثات:
_ من شان اللللللللللله لا تقتلني..ااااااااااه.....ساعدونننننننني يا ناس....... جاااااااااي يا أهل البلد......يا عالم حد يساعدني
اسرع الشبان في مشيتهم، ركضوا ، دخلوا ساحة الدار ، اذ بوسيم يغالب أمرأة بكل قوته ، يحملها من وسطها بكلتا ذراعيه ، حافية القدمين، شعرها منفوش ، تصيح مرعوبة ، تضع ارجلها في حافة باب البئر، تقاوم السقوط في جوف المياه العميقة المعتمة ، بيديها تحاول التخلص من قوة ذراعية المطبقة على خصرها ، وهو يهم بكل قوته دفعها الى جوف البئر ليغرقها فيه ، يحاول ويحاول وهي تقاوم ....... تقاوم بكل ما أوتيت من قوة السقوط في البئر، يركلها برجليه ، يدفعها بكلتا يديه ، يصر على ارغامها على السقوط في جوف مياه البئر وهي.........و...........
صاح أصدقاءه الثلاثة بصوت واحد :
_ ( يخرب بيتك ......مجنوووووون............. تريد قتل امك !!!
_ لماذا جئتم؟ ماذا تريدون مني ؟
هذه ليست أمي ، اتركوني أقتلها وأتخلص منها.
_ حقيقة انت مجنون رسمي يا وسيم ، وفي يوم عيد الام !!! ما بتخاف ربك يا زلمة ؟
تريد قتلها بدل أن تعطف عليها ، وتحتفل بها ، فلو فتشتت الكرة الارضية بكاملها، لم تجد لها أختا او تجد لها بدلا .
_ ارجوكم لا تتدخلوا بيني وبينها ) .
أمسكه أثنان من الشبان وسيطروا عليه ، أحضروا حبلا اوثقوه به ، أمسك الشاب الثالث بيد الأم خديجة ، اصطحبها معه الى منزله ، بعد حوالي الساعة رجت الأم الشباب الثلاثة ، بالذهاب الى فك وثاق ابنها وسيم ، فهي لا تحتمل أن يعذبه أحد أبدا. وطلبت منهم أن يسمحوا لها بالمكوث عندهم حتى صباح اليوم التالي ، لتستريح قليلا وتهدأ أعصابها .
*******
احتارت خديجة بما أقدم عليه ابنها من سلوك عدواني معها، ولم تتخيل أن يقوم بمحاولة قتلها أبدا ، حتى في أسوأ الأحلام ، لكنه لاسفها الشديد فعلها . في الوقت نفسه قررت بعد تفكير عميق داخلها ، عدم الرجوع الى منزلها ، عدم العيش معه أبدا . لم يتوقف دماغها عن تدوير الصور المتلاحقة والمتنوعة في رأسها ، فهي ترغب بالعيش معه، تحبه أكثر من روحها، لا تستطيع تخيل مفارقتها له ، انما المشكلة لا تكمن فيها، المشكلة تكمن فيه ، هو يكرهها لا يريد العيش معها ، والعديد من المرات سابقا قام بطردها من البيت ، لكنها كانت تصبر، تحتمل أساءاته ، ثم تعود ذليلة خانعة لتعيش تحت رحمته .
بعد ساعتين من وقوع الحادثة، ذهبت خديجة بمرافقة صديق ابنها محمد الى بيتها ، أحضرت بعض مستلزماتها من ملابس وبعض المقتنيات ، وأشياء غيرها في صرة متوسطة الحجم ، وعادت لتقضي ليلتها عندهم .
في المساء بعد تناول وجبة العشاء ، سألت ام محمد ام وسيم :
_ يا أم وسيم ما سبب اقدام ابنك وسيم على ما فعلته معك هذا اليوم ؟ هل هناك ما يدعو لمثل هذا السلوك الغريب ؟
_ الله يسامحه ويهديه ، والله خسارة عليه ، لم أكن اتوقع أن يكون هذا جزائي عنده ، فبعد كل ما قدمته له في هذه الحياة البائسة ، يا خسارة ! يا أسفي على تعبي معه ! يا أسفي على ترملي الطويل لأجله ، انت تعرفين يا أختي اني اختصرت كل الدنيا من أجله..... وللأسف .
_ نعم صحيح، كل الناس يعرفون كم أنت مخلصة ووفية له ، هذا ما يحيرني ، أيعقل أن يقوم ولد بقتل أمه هكذا !!!
خديجة ، ربما كان وسيم سكران ، أو متعاطي مخدر ما ؟
_ لا هذا ولا ذاك ، قبل يومين ، عاد وسيم من شغله في البنك، كان سعيدا جدا، تحدثنا وضحكنا، أخبرني أن ادارة البنك تنوي عمل حفلة كبيرة للأمهات بمناسبة عيد الأم ، بما في ذلك امهات الموظفين ، طلب مني أن أحضر نفسي للذهاب الى الحفل بصحبته ، بعد رجوعه اليوم من عمله ، تناولنا طعام الغدا ، طلب مني أن أرتدي أجمل ثيابي كي نذهب الى الحفل ، ارتديت ثوبا لونه أخضر وجهزت نفسي ، خطونا بضع خطوات نحو باب الدار فاستوقفني ، طلب مني تغيير ثوبي الأخضر وارتداء ثوبا لونه أحمر أو أصفر ، رفضت طلبه وقلت بانني لا أستطيع ارتداء ثوب أحمر أو أصفر ، لأنني أرملة والأحمر وغيره لا يناسب وضعي الاجتماعي ، اشتاط غضبا ثم بدأ ينفخ ويشتم الزمن والظروف والحياة ، حاولت تهدئته ، الا انه أقسم ألا نذهب الى الحفل الأ اذا ارتديت ثوبا أحمر أو أصفر.
عدت الى غرفتي متجاهلة سلوكه، فثارت ثائرته ، لم أعوده سابقا على رفض طلباته ، كذلك فان سلسلة نجاحاته المتصاعدة ، جعلته يعتقد أنه بلغ ذروة شاهقة من المجد ، لذلك فقد حالت قساوة كبرياءه أن تلين أمامي وانا أمه . على الفور تغير مائة وثمانون درجة ، أصبح وسيم غير ذاك وسيم الهادئ الوادع ، يشعل السيجارة من أختها ، ينفخ الدخان بعنف ، صار يعض على شفته ، يقضم أظافره ، بين الحين والأخر يشتمني ويشتم الذات الالهية ، مع كل هذا لم اكترث لحالته المتحولة ، استبدلت ملابسي ونمت على سريري ، حينها انفجر كالبركان ، تحول من انسان الى شيطان ، واكثر ما غاظه ، هو اصراري على لبس الثوب الاخضر ، ثم هاجمني بوحشية ، صفعني على رأسي وعلى كل بدني بيديه ورجليه ، سحبني بكل ما أوتي من قوة الى الخارج ليرميني في البئر، ولولا عناية الله ، الذي سخر لي ابنك محمد ورفاقه حينما حضروا وخلصوني من بين يديه ، لكنت الأن في أعماق البئر غريقة دون أن يعرف عن مصيري أحد من الناس ، ولكني احمد الله على لطفه معي ورحمته بي ، الله يرضى عليه ابنك محمد واصحابه ، هم من انقذوني .
_ ولكن يا أختي ام وسيم ، سامحيني، أيعقل بسبب اللون الأحمر والأخضر ، أن يقوم ابنك بقتلك ، لا أعتقد ذلك، لا بد وأنه مريض ، والله الدنيا بأخر وقت ،
عفوا يا الله..... !!! عفوا يا الله.....عفوا يا كل ألوان السماء !!! اتستحقي أن تقتلي بسبب اللون الأحمر أو الأصفر ؟؟؟
لاأعرف ما سبب هذا السلوك ، غير أني قرأت للأديبة أحلام مستغانمي في روايتها (عابر سرير ص ١١٥ : أن هناك اناس اذا قدمت لهم خدمات كبيرة، الى الحد الذي لا يمكن الرد عليه ، يردون عليك بنكران الجميل ، فيصبح عدوك لفرط ما أحسنت اليه ، لذا لا بد أن تعذر من تنكر لك ، ماذا تستطيع فعله ضد النفس البشرية ؟ ) .
*******
حوالي الساعة العاشرة مساء، سمعت الأم خديجة أصواتا ولغطا على باب بيت من استجارت بهم، علت الأصوات ، فأخبرت أم محمد الأم خديجة، بأن ابنها وسيم جاء ومعه بعض الرجال من أجل أن يعتذر لها عن فعلته، وأنه يرغب بمصالحتها وارجاعها الى بيتها ، لكن محمد وأصدقاءه رفضوا مطلبه وطردوه من باب البيت . رفضت خديجة مصالحة ولدها والعودة معه الى بيتها، وأصرت على قضاء ليلتها عندهم، شعرت خديجة بألم شديد وتوتر في معدتها ، رفضت تناول أي طعام، فشهيتها مفقودة ونفسها مسدودة ولا مجال للأكل أبدا، تركتها أم محمد في الغرفة لوحدها كي تنام وترتاح.
ثقل رأس خديجة بالحيرة، دخلت في نوبة بكاء صاخب داخل قلبها، دموعها ما تلبث أن تسيل من مأقيها، حارة بطعم المرار. راحت الأفكار تتراكض داخل رأسها مثل جيوش من النمل، التجربة هي ما تضعنا في مواجهة أنفسنا وحقيقتها. لماذا قام ابني بما فعله حين اعتقدت أني وصلت بالفعل غايتي ؟ وحين غدوت أقف بمحاذة الحلم الذي كنت أنتظره العمر كله ؟ انه هو حلمي، ولكني وجدته أوهاما أو وحشأ، تذكرت خديجة أبيات لشاعرة بدوية سمعها الأصمعي قالت تخاطب فيها الذُعبان اِبن الذئِب :
بقرتَ شُويهتي وفجعتَ قلبي وكنتَ لشاتنا ولداً ربيب
غذيت من درها ولبثتَ فينا ويحكَ من أنبأكَ بأَن أَباكَ ذيب
تعود الأم تسأل نفسها : ماذا جنيت أنا، من أجل ماذا تقتلني يا ابني ؟ هل كان ينقصني مزيدا من الألم ووجع القلب ؟ من أجل ماذا تغدر بي يا ولدي ؟ هل كان ثمة ما يستحق ؟ يا له من شعور مهين بالعار !!! هل كان مكتوبا علي أن أقع أو القى في البئر ؟ هل الوقوع جزء من طبيعتي ؟ هل خلقت يا ابني وسيم كي تفعل ذلك بي ؟ هل كتبت التضحية على المرأة ؟ ولم يكتبوها على الرجل؟ فحق عليها الألم منذ تولد وحتى تموت ؟ هل يبصر المرء كيف تتبدل الغايات ما أن يضع القدر الانسان في مواجهة طرق مسدودة ؟ أقتنعت خديجة أن مغادرة أبنها وبلدها هي الخلاص ، فقد امتلكت خديجة جسارة المضي رغم الخسارات الكبيرة ، وأن تمضي حتى النهاية .
كانت خديجة في أوائل الأربعينات من عمرها، تعتبر خديجة بحق مثقفة نسبيا، برغم انها لم تحصل سوى على شهادة دبلوم رياض أطفال ، الا أن لها من بين عاداتها الحميدة عادة المطالعة والقراءة، فدائما وباستمرار كانت تحرص على اقتناء الكتب الأدبية من روايات وشعر ، وغيرها مما يتيسر لها شرائه، فهي قارئة جيدة ذواقة للأدب، كذلك كثيرا ما كانت تدون بعض الخواطر الوجدانية، والمحاولات الشعرية ، وتفرغ همومها في مفكرة . استغلت معظم أوقاتها السابقة في القراءة مما ساعدها في البعد عن الملل والضجر، في مختلف فصول حياتها، كذلك فقد ساعدها هذا الأمر وأثر الأثر الايجابي على تعليم ابنها، وتشجيعه على التحصيل العلمي ، وحصد أعلى الدرجات. فخديجة تتمتع بدماغ نظيف ذكي، انسانة مرهفة الحس والمشاعر، حساسة، تتفاعل مع كل الأمور بطريقة معمقة، من هنا، كانت صدمتها وخيبتها كبيرة بما فعله ابنها معها من جحود ونكران ، فبالرغم من تظاهرها بعدم الاكتراث أمام أصحاب البيت الذين أستجارت بهم، الا انها انطوت على نفسها ، وأعملت فكرها عميقا بما يجب عليها اتخاذه من قرارات عملية ، تحدد وضعها في قادم الأيام. فكان صبرها قد بلغ منتهاه، لذلك استجمعت جسارتها وضربت موعدا مع الفراق .
يتبع في الحلقة (٩) يوم الخميس الاسبوع القادم ان شاء الله .
تعليقات
إرسال تعليق