فوزي نجاجرة من فلسطين
الحلقة رقم (١) من رواية أمضي أم أعود ؟؟؟
في بداية اول أسبوع من شهر أذار مطلع الربيع ، كان الجو لطيفا جدأ ، معتدل الحرارة ، الشمس تبعث برسائل حب لكل الخلائق في ربوع البلاد ، من أزهار اللوز البيضاء الى شقائق النعمان ، الى أصغر الأطيار وأكبرها ، من الفر والحجل والحمام واليمام والقمري والحسون ، الى قطعان الأغنام وولاداتها وشلياتها ، ورعاتها الذين ينشرون الفرح والجمال على شكل ألحان موسيقية عذبة تتموج وتتموسق من ثقوب النايات ، لتنتشر وتتوزع الى كل السهول والجبال والى كل وادي . تبعث رسائل حب دافئة عبر أشعة الضوء الشمسية ، لتصل أيضا الى غزال وغزالة يمارسن الحب بسعادة كبيرة وسط الحقول الخضراء . ثم لا تنسى شمس ربيع أذار ، أن تغزل من أشعتها رداء نسيجه من نور ، للشابة خديجة ، ابنة الأثنين وعشرين ربيعا ، لتزدان به وتزهو ، وليبعث دفئا وحبا جميلا للحياة في صدرها .
في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر ، غادرت معلمة الروضة خديجة مكان عملها في أحدى ضواحي المدينة ، متوجهة الى موقف الحافلة التي ستنقلها الى الشارع القريب من منطقة سكناها ، وهي تغني بصوت منخفض وتردد بعض كلمات الدنيا غنوة باللهجة المصرية للمطربة ليلى مراد تقول فيها :
"الدنيا غنوة نغمتها حلوة احنا اللي نطير ونغنيها أه ، أه ، أه ، أه
والدنيا دي كلمة ، من غير ولا كلمة احنا اللي نكمل معانيها أه على معانيها
ازاي بيقولوا الناس عنها دنيا أحزان ؟ والسحر ده كله عايش منها أشكال وألوان
الزهر ده وصفوه للعين والورد ده جرحوه قلبين والدنيا ده مخلوقة لاثنين واحد هنا والثاني فين
مهما الحبيب بعدت أراضيه دور عليه يمكن تلاقيه جنبك ولا انت حاسس به"
صعدت الى الحافلة ، وهي ما زالت تردد بلسانها الدنيا غنوة نغمتها حلوة ، وتتذكر أيام كانت طفلة في الروضة الكائنة في حيهم ، فكم كانت تحب معلمتها الجميلة الشابة أميرة ، صاحبة الشعر النيجرو الأشقر ، التي كانت تهتم بها كثيرا ، وتمنع الأطفال من الاعتداء عليها ، تتذكر أيضأ الاحتفال الذي أقامته لها ، في يوم عيد ميلادها عندما بلغت الخمسة أعوام من عمرها . فقد اهدتها يومها مجموعة من التلاوين الجميلة ، دفتر رسم و مجموعة بقل لشعرها .بقيت خديجة تنظر من نافذة الحافلة والشجر يجري مسرعا وأعمدة الكهراباء كذلك الناس ، وهي سارحة في ذكرياتها الجميلة ، لتصل الحافلة بسرعة الى المفرق الذي تنزل فيه كل يوم .
قفزت خديجة مسرعة من الحافلة ، درجت على الرصيف بمشيتها المعتادة والتي تشبه درج الحجل ، تنظر وتلف عنقها الجميل يمنة وشمالا بسرعة ، تبتسم شفاهها تلقائيا لجمال ما تبصره عينيها وتتأمله في المحلات التجارية ، من حلويات ، زهور ، ملابس ، خبز ، مكسرات ، خضار ، اكسسوارات ، وكل هذا في كفة ، ورائحة تحميص القهوة التي تستثير حواسها وتنشطها في كفة أخرى ، خديجة الشابة الجميلة تعشق رائحة القهوة ، خاصة في لحظات تحميص حب البن . فجأة وجدت أرجلها تقف لا اراديا أمام مكتبة ابن سينا ، فتصفحت عناوين بعض الكتب ، ثم دخلت الى داخل المكتبة ، سألت صاحب المكتبة عن بعض الكتب التي طلبتها منه قبل اسبوع ، فاعتذر لها بسبب انشغاله نظرا لازدحام المكتبة في هذا الوقت ، وطلب منها أن تأتي في ساعات بعد العصر .
امتازت خديجة ومنذ صغرها بدقة ملاحظتها وسرعة بديهتها ، وشدة انتباهها أكثر من غبرها من بنات جيلها . كانت لماحة تستنتج نتائج الأمور بسرعة مذهلة ، لها دماغ يمتاز بدرجات عالية من الذكاء ، الذي ينسجم بعلاقة جدلية مع اطلالتها المشرقة ، وينسجم مع جمال شكلها وهيئتها وحركة عيونها السريعة اللماحة ، فشكلها يدل سبحان الله على مضمونها . تلبس ملابسا عملية تمنحها شعورا عاليا بالنشاط ، عادة ما ترتدي بنطلون جينز ، بلوزة حمراء ، أو بيضاء ، أو زهرية ، تسرح شعرها الأسود الكثيف تسريحة الأسد ، عنقها طويل دقيق ، وجهها قمحي يميل الى البرونز ، شفتها السفلى بارزة ، أنفها صغير ذو أرنبة دقيقة ، لها عيون واسعة ، غالبا ما تمشي بثقة عالية وهمة .
خرجت خديجة من المكتبة ، قاصدة منزلها والذي لا يبعد أكثر من خمسة عشر دقيقة ، عن مركز المدينة سيرا على الأقدام . اثناء سيرها كانت كثيرا ما تلتقي عيونها مع عيون أحدى معارفها ، فيتبادلن الابتسامات والتحيات دون التوقف مع بعضهن ، بينما كانت تغض المشي ، وتتابع سيرها نحو منطقة سكنها ، لفت انتباهها طفل صغير لا يتجاوز السنتين من عمره ، يتسلق دربزين شرفة بيته التي تقع في الطابق الثاني من البناية ، يهم هذا الطفل بالنزول عن الدربزين الذي يرتفع بما لا يقل عن سبعة أمتار عن الأرض . ملأ الخوف قلبها على الطفل ، ادركت على الفور أنه لا محالة ، سيسقط هذا الطفل الأن . صرخت لا شعوريا ، صاحت على الطفل تحذره بالتراجع ، كان بينها وبين البناية عشرة أمتار، أسرعت في مشيتها وهي تحدث نفسها بصوت عالي..........
_ لا......لا.....لااااااااا ....
يتبع في الحلقة رقم (٢) غدا ان شاء الله .
تعليقات
إرسال تعليق