الحلقة رقم 21 من رواية امضي ام اعود :
_ وأخيرا التقينا يا ابني، الله يرضى عليك ويحفظك من كل شر ، احكي يمه، ماذا عملت طوال فترة فراقنا ، أنا متاكدة انك كنت تبحث عني طوال الوقت ، الله يلعن الشيطان ، كل ما حصل وصار هو سببه .
_ من شان الله يمه خديجة، يمه حبيبتي لا تبكي، بكفينا بكاء ودموع، بكفينا حزن، أنا غير مصدق اني لاقيتك، أأأأأأأأأأه يمه خديجة ، سامحيني، سامحيني يمة، هاتي رجليك ابوسهن، أعطيني رجليك ابوسهن ، منشان الله يمه أنا غلطت بحقك، سامحيني يمه، أنا ما كنت بوعيي حبيبي ابني ، وسيم بسم الله وما شاء الله عنك ، صحتك أحسن من زمان، وجهك مفتح مثل الوردة، حبيبي ، الحمد لله ، لما أخطأت معك، أنا أنا.........
_ حبيبي، أه أه يا ابني، وسيم وسيم يمه ، انا اخطأت مش أنت، لازم انا اتحملتك، وما رحت أو جيت، الله يلعن الشيطان يمه، ما علينا خلينا نفرح بعيد ميلادك يمه، كم صار عمرك اليوم ؟ قلي يا عمري ، قلي يا قلب امك يا وسيم ، تعال بحضني يمه، خليني أشم ريحتك مثل زمان .
_ يمه، كيف انسيتيني يمه؟ هونت عليك وفارقتيني ؟ كيف قلبك طاوعك ؟
_ أه يا وسيم، يشهد علي الله ، بعمري ما نسيتك لحظة، أنا كنت اذا دخلت في أي حديقة، أشوفك يمه في كل زهرة من زهورها، كنت أشوفك في بياض الياسمين ، في اصفرار النرجس، في احمرار الاقحوان، أشمك في ريحة كل ورة زكية، أشمك في شذى الزنبق، وعطر الفل، اشوف ملامحك في بتلة من بتلات الورد، في أخضرار أوراق الأشجار، وأسمع صوتك مع صوت كل أذان وقت الأسحار.
تعال يمه ، بدي أشبع منك حبيبي يا وسيم يا عمري ، خليني أضمك يا ابني............
ضغطت ام الوفا بقوة على ابنها وسيم وهي تضمه وتحتضنه بقوة الى جهة قلبها ، تقبل رأسه ،وجهه ، تمسد شعره، دموعها تفيض من قلبها كماء الانهار ، فتحت عينيها وأغمضتها، ثم فتحتها أغمضتها، أرجعت الكرة ثلاث مرات ولم تجده، ثم فتحت عينيها وتأكدت ، ادركت أن من تضمه وتحتضنه ليس وسيم بل هو وسادتها ، أدركت انها تحلم ، جلست في سريرها، تشد شعرها ، تمزعه، تلطم خديها بقوة، تنوح نواحا يقطع القلب والأسحار ، استفاقت وكأن ما حصل معها قبل عشرون سنة تكرر هذه الليلة باختصار، كل أوجاعها تفتحت عليها من جديد بأكثر عنادا واصرار، كل خلية من بدنها صارت ترجف، تهتز، تتحول، تتغير دمها فار، ازدادت حرارتها، قلبها مرجل يغلي صار، يشوي يحرق ما حوله من أعضاء بنار ، اختلفت المرأة بدأت تنهار، حتى دماغها ارتج ، اختل توازنه ولم يعد يسيطر على ما تواجهه ام الوفا من احتضار . فمها ينوح احضرت مفكرتها وكتبت :
يا رب أيرضيك ما انا به من حرمة شوق وانكسار
يا رب فرج همي ارحمني يا عزيز يا قوي يا جبار
أنا المشتاقة لولدي ولم يتبق عمرا سوى أخر النهار
فلم تلد الولادة يوما طفلا مثله جماله بجمال الأزهار
ماذا جنيت انا حتى يكوى فؤادي ويحمى عليه بنار
ماذا فعلت من جرم حتى اجزى بمر فاق كل مرار
يا رب يا رحمن السماوت والأرض تلطف بالأقدار
أنا لست من حديد أو حجر أنا مخلوقة من الصبار
أنا البائسة الشقية من أخمصي حتى أدق الأسرار
تواصل بكائها واحتضارها في حضرة طيف ابنها، كانت الساعة تقارب الثانية والنصف بعد منتصف الليل، العتمة حالكة، ليلة شتوية شديدة البرودة، المطر يطرق ويدق على زجاج النوافذ، تلك اللية هي ليلة السابع والعشرون من شهر كانون الأول، الذي يصادف ذكرى تاريخ ميلاد ابنها وسيم من كل عام. بدأ صوت خفيف في داخل الغرفة يتحدث معها، يتمازج مع صوت أنفاسها وصوت نقر المطر والبرد على الشبابيك، قال :
_ يمه خديجة، قومي افتحي لي الباب، أنا طول الليل سهران أدق على الباب وانت لم تفتحي لي، انا وسيم .
_ هههههههههههههههه، اذن أنت وراء الباب يا وسيم، حبيبي يمه. هلأ أنا جاية .
قفزت عن السرير بقوة كأنها ابنة عشرة اعوام، نظرت الى المرأة ، رتبت واصلحت من هيئتها وهي تقول :
_ وسيم انتظر يا حبيبي قليلا .
ثم فتحت الباب على عجل، نظرت خلف باب الغرفة لم تجد احدا، عبست تكدر وجهها، مباشرة قال لها ابنها وسيم في داخل أذنها الشمال .
_ لماذا غضبت، انا لست خلف باب الغرفة يمه، انا خلف باب المقهى، تعالي افتحي لي باب المقهى الخارجي، أنا بردان تجمدت من البرد .
راحت تركض فتحت الباب الداخلي الذي يفتح على غرفة المقهى، ثم فتحت الباب الخارجي مثل البرق ، لم تجد أحدا عنده.
_ ههههههه...........ههههههههههههه .
ضحك وسيم ضحكة مزلزلة داخل دماغها، وفي كل الأرجاء . انتابها الحزن الهم الغم والخذلان، رجعت تجر قدميها ، لم يتوقف صوت الضحك داخل رأسها .
_ يمه حبيبي يكفي ضحك ، توقف دخيلك يكفييك ضحك .
عادت ام الوفا الى غرفتها، استلقت على سريرها متعبة، صوت أبنها يستمر في مغالبتها ، ويتحدث معها، هي تبادله الحديث . دخلت مجددا في نوبة بكاء، بعد البكاء ضحكت وقهقهت ، بدا جسمها يرتجف يهتز، تدثر نفسها بالاغطية من شدة الخوف والبرد . ترتعد من شدة المرض ، كلما حاولت النوم، ذاك الصوت يتحدث معها، تنظر في الغرفة فلا أحد ، تغمض عينيها لتنام دون جدوى، يوقظها يتحداها، يشاغلها، يطلب منها النهوض على رجليها، او العودة للنوم أو أن تنظر من الشباك الى الخارج، يهددها يتوعدها، لا يتركها أبدا، كلما جائتها نوبة نعاس يمنعها من النوم ، صوته نفس صوت ابنها وسيم .
بقيت ام الوفا على هذه الحالة ، منهكة متعبة ، تهز جسمها السخونة المفرطة ، التي يصعب على البشر تحملها ، تبكي تصرخ من قوة الضغط الذي يكاد يفجر أذنيها من الداخل . طلع النهار ، حضرت أم بشير اليها ، أخبرتها بانها مريضة ، لا تستطيع اليوم العمل في المقهى. استمرت على هذه الحالة لأكثر من عشرة أيام بلياليها ، توقفت عن الاكل والشرب، نزل وزنها لأكثر من خمسة كيلو غرامات ، الجو بارد جدا برودة مربعانية أشهر كانون. بدن المرأة يرتجف يرتعد بردا بشكل مستمر، تغيبت أم الوفا عن المقهى وعن زبائنها، ام بشير فقط كانت تتابعها ، بدأ الكل يسأل عنها، أكثرهم اهتماما وسؤالا هي الدكتورة سمية بنت أم بشير، كذلك اقبال . اخيرا اقتنعت ام بشير ان شريكتها ام الوفا قد تغير حالها، ولم تعد هي ام الوفا السابقة. تحدثت مع كلا من ابنتها الدكتور سمية ومع اقبال، أعلمتهن بوضعها، على الفور ذهبن اليها ، وجدنها بحالة يرثى لها تصعب على الكافر ، شعرها منفوش متسخ، عينيها واسعتان جدا واللون الأحمر يطغى على بياضهما ، ملابسها متسخة، بيتها عفن تعمه الفوضى، ريحتها صعبة، جائعة جدا، فمها جاف، تنادي فقط على وسيم، تتحدث معه بصوت شبه معدوم ، تارة تضحك وتارة تبكي .
عندما شاهدت أم الوفا الدكتورة سمية ، قالت لها:
_ غير معقول أبدا، انا غير مصدقة يا بنتي، .....الحمد لله على سلامتك .
_ أنا بخير يا خالتي، عن ماذا تتكلمين ؟
_ أخبرني وسيم انك استشهدت في المظاهرة قبل اسبوع .وقال أيضا........
_ خالتي حبيبتي، انا ما استشهدت، مين خبرك؟ هذا كذاب يا خالة .
_ الحمد لله رب العالمين، فعلا هو كذاب، لعنة الله عليك يا وسيم الكذاب . رايح أحاسبك يا وسيم الكلب .
تساعدت الشابتين على تحميمها وتنظيفها وتغيير ملابسها، أحضرن لها طعام وأطعمنها ، أعطينها مسكنات ، أخذنها الى المشفى في سيارة الدكتورة سمية، الذي بدوره حولها الى طبيب نفسي مختص.
استقبلها الطبيب النفسي ، تحدث أولا مع الصبايا ، ثم تحدث الى ام الوفا ، سألها بعض الأسئلة ، شخص حالتها بأنها
( شيزوفرينيا حادة ) ، كتب لها بعض الأدوية ، أكد على ضرورة أخذها لهذه الأدوية ، ووعد بانها ستتحسن ، وعليها مراجعته بعد اسبوعين . بحثت الدكتورة سمية في اكثر من خمسة صيدليات مختلفة ولم تجد الدواء ، ووجدته في الصيدلية السادسة ، عدن الى منزلها ، أعطينها الدواء ، مباشرة نامت ، تشاورت المرأتين بخصوص بقاء واحدة منهن مع ام الوفا ، اقترحت اقبال ان يتناوبن كلتاهما على المبيت عندها ، كل واحدة منهن ليلة حتى تشفى تماما . غادرت الدكتورة سمية الى بيتها ، انقضت الليلة ، جاء الصباح لم تستيقظ ام الوفا ، حاولت اقبال ايفاظها بدون جدوى ، حضرت ام بشير حوالي الساعة الثامنة، تكفلت بمتابعة المرأة أثناء النهار، كون المقهى يفتح على سكن ام الوفا ، واصلت ام الوفا نومها طوال النهار، حول المساء حضرت الدكتورة سمية واقبال وام بشير ، حاولن ايقاظ المرأة، فتحت عينيها وبدات بالانشاد :
قلبي يحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرفي
ما لي سوى روحي، وباذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني يا خيبة المسعى اذا لم تسعف
يا مانعا طيب المنام ومانحي ثوب السقام به ووجدي المتلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها لمبشري بقدومكم لم أنصف (١) ابن الفارض
حال ما أن انتهت من النشيد ، أخذت بالصياح والنواح من شدة الألم في رأسها ، أكلت قليلا من الطعام، أعطتها اقبال الدواء وغطت في النوم مجددا. بقيت الدكتورة سمية لدى ام الوفا ترافقها طوال الليل ، وهكذا استمر الحال لاسبوعين، بات واضحا ان حالة ام الوفا لم تتحسن بتاتا، وطوال الاسبوعين لم تستفق خلالهما لساعتين فقط لتأكل القليل من الطعام وتأخذ الدواء وتقضي حاجتها، وهذا هو بالضبط ما حصل مع ام الوفا .شعور بالحزن والأسى ساد بين صديقاتها على حالتها، أدركن أنها لم تتحسن، وبالعكس فان حالتها تتدهور.
بينما استفاقت أم الوفا قليلا من النوم، سمعت وسيم في الغرفة يقول لها :
يتبع الحلقة رقم 22 غدآ ان شاء الله .
تعليقات
إرسال تعليق