* عبودية القهر *
ها قد قرع الجرس ..
صفرت ريح الهوة الكادِحَة ..
وشرع قطارُ الرِّحلةِ على سكةِ العُبُودة ..
أشعل الليل بنيران الشقاء ..
لأحترق فيه بوقود الظلم والحرمان ..
وجيء بالأصفاد الملتهبة بالبلاء ..
بقيودِ العبيد ..
أوهاقُ الدّوابِ ..
تطوقُ حركة أوصالي ..
تحاصر أجنحة روحي ..
تلقيني في غياهب الظلام وحُمَّى التعذيب ..
في هذهِ اللحظة تعلن العبودية وبكلِّ لؤميها ٱمتلاكي ..
تغمغم أنها ٱشترتني ومنذ ملايين السنين من بيت كبير النّخاسِين ..
كنت أفرُّ منها وفي كلّ كرّة تطاردني ..
وها أنا واقعا في شركِ أقبيةِ العَبِيد ..
مقيداً في قبضتِهَا الشّريرة ..
أختنقُ في غبارِ الهوان ..
غريقاً انقضت علي عاصفة اللّجج ..
فمِن أين لي أنْ ٱستنشق نسيم البحر ..
من أين لي أن أقف سيدا حُرا على شاطئ الحرية ..
عاريا من خيوط العنكبوت ..
عاريا من النقائض والنقائص ..
أسمع نشيد النوارس ..
أغني مواويل مواسم الحصاد ..
وأملأ عيوني بنور الشمس ..
من أين لي أن أقاوم ..
وكلُّ من حولي رغما عنهم عبيد ..
مستعبدين ..
مقهورين ..
وحتى مَنْ أقنع نفسَهُ بضرورةِ العُبُودة وشقَّ لهُ كُوَّة في أفق السَّماءِ..
بضرورةِ الرّضوخ لاِسْتِبْدَادِ القهر ..
وبأنّها وَاجب لِمُتنمر يربض خلف الأجمة ..
وأنها قدر لا مفرَّ منهُ من محيق ..
هو أكثرنا انحداراً في العُبُودِيّة ..
أكثرنا مملوكاً ..
أكثرنا في الدُّونيَّة سقوطا ..
فهَلا لأحدٍ حَقِيقة حرَّةُ الرُّوْحِ ..
أضغاث أحلام تضطجعُ على سَرَاب ..
فكيف لي أن أقاوم ..
عصابة إرهابيّة بسطت نفوذها على كلّ الحدود والخرائط ..
عصابة حازت الذهب والسُّلطان ..
سيرتنا قوافل إلى ساحات الموت الزّؤام بٱسم الحرية والوطنية والمعتقدات فليس إلا الجماجم والغبار ..
ليس إلا التسخير وبأطواقٍ من نار ..
أخذت لبّ سنين أعمارنا وكل دمائنا وقودا لأتونِ المتخفي المأفون ..
زهرة شبابنا تسقى بالسُّمِّ الزّعاف ..
تذبل ذاوية لمستنقع أوباء الإخضاع ..
فمن يملك الرفض ..
من يرفض ..
عليه غضب الشياطين ..
عليه لعنات حُراس ماجن البجر ..
وسيغرق أكثر ..
في الوحل ..
في الاِسْتِرقاق ..
في التّعذيبِ والقهر ..
أهكذا تكلفنا الأرض ..
أهكذا يكلفنا الوطن ..
أهكذا تلون الحياة بالأسود الفحيم ..
يا لِحلقات الرِّقِّ مَا أكثرها ..
ما أن أفلت من واحدة حتى أسقط في الأخرى ..
مرغما ..
لا ٱختيار لي ..
سلسلة طويلة هي تصطف على بعضها في ٱزدحام ..
ينتهي العمر وتبقى هي ..
تبقى لاِستغلال كلّ الأجيال ..
فإلام هذا الاِنكسار الذليل ..
هذا الركوع المهين ..
وسيف الوضاعة على الأعناق يستذلنا مدينون ..
وفي الخاصرة مُنغرسة السّكِين ..
بيد الإنسان يذبح الإنسان ..
إلام الجيوش الجرارة في كل مكان ..
على غلصمة كل إنسان ..
وحوش جبّارة مفترسة تعوي بالخراب ..
وبُخترِيَّة بِترسانات الإبادة تضغط على صدر الأرض ..
تضغط على قلب الإنسانية ..
تهدد بِمَاجنة سكرة الغي بتحويل كل شيء إلى رماد وتباب ..
إلى هباء وفناء ..
إلام تفر العرائش من فوق رأسي ..
والعشب الأخضر من تحت قدمي ..
وإلى متى يكبح صهيل الريح ..
نداء ثورة التغيير لِنعمَاءِ الكُلِّ أجمعين ..
يكبح تغريد الطير في الحناجرِ لاِختِناق ..
تلقى أصفاد الخوف والظلم والاِسْتِرقاق على النَّاسِ ..
تغتال الشمس وفي أوَّلِ النَّهَارِ ..
يحبس المطر أو بعقا بوابلٍ لِدمَار ..
وتقص أجنحة الطيور ..
إلام تفر اليمامات عني نحو الأفق البعيد ..
وتختفي ..
تهاجر من كفّي الطيور بلا رجوع ..
وبلا نداوة غضارةٍ زهرات الربيع ..
تهيمُ الفراشات عن الحقل بلا إتجاه لكأنما تطاردها النيران ..
وتعصف بِولولةِ الأسرِ في سنين عمري ريحُ الخريف ..
الآن ..
الآن تقهقه مني كلّ الأشباح ..
تسخر بعبوديتي الخرساء ..
بٱنحناءاتي الحدباء ..
وطاعتي الجرباء ..
تسخر بعبودية الإنسان ..
بالقيود واللهاث والسعار ..
أين رأينا وقرارنا وسيادتنا ..
أين التمرد والعصيان ..
أين كفاحنا ..
وأين نحن عن الوَهْمِ والسَّرَاب ..
أمسلوبة منا الإرادة تصرخ في الصمت ..
مصلوبة في الوديان السحقية ..
وليس لأنينها أمواج ..
تذبل العيون تبيح هوان النفس ..
سجودها في هاوية الذل ..
جثث بلا أجداث ..
كل شيء رهن الاِنْتِظار ..
عليه القسوة منكسرا يؤول للإندثار ..
أهكذا تكلفنا الأرض ..
أهكذا تسير بنا الحياة ..
عبيداً مسلوبي الإرادة ..
تهزأ حتى الأخيلة منا ..
من عبوديتنا الرّقطاء ..
هي ذي قبّة الحَجْرِ والمَنفى ..
قد أحكم إغلاقها المُتلهِي الشرير ..
هي ذي الشرائع والدساتير ..
تأخذنا مماليك معدومين ..
تطفئ الشَّمس في عيوننا ..
تملأ صدورنا بالصقيع والجليد ..
تملأها بأسقام قيح المعاش وبأوبئة الرُّعب ..
وتجعل قلوبنا أوعية للسم ..
عقولنا للعفن ..
وأنفسنا للظلمة والركوع بأكبال الجحيم ..
فيا للعبودية ..
عبودية القهر .. .
من كتاب سفر بلا عنوان
للمهندس فتحي الخريشا ( آدم )
تعليقات
إرسال تعليق