التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بقلم الرائع أ/فوزي نجاجرة/////


حلقة رقم (١٨) وهي حلقة مثيرة من رواية ستشرق الشمس ثانية :
جاءَت ليلةُ حناء مسعدة، التي صادفت ليلة الخميس، واصطحبَ يوسف فخري فاردة مكونة من حوالي عشرين رجلًا وامرأة من شاكلته، وتوجهوا إِلَى دار العروس مسعدة.
وكما ذكرتُ فإِن بيتَ مسعدة يبعد عن بيتنا خمسين مترًا، بينما يبعدُ بيتُ يوسف فخري حوالي مائة مترٍ، فجميع البيوت في البلدة متلاصقةٌ وقريبةٌ من بعضِها كخلية النحلِ، انطلَقَت الأَغاني والمهاهاة والزغاريد في كل فضاء القريةِ الهادئة.
جلستُ على شرفةِ منزلي متوترًا، والغضبُ يشتعلُ في رأسي، كنتُ متوجسًا خائفًا مما سينتج عن هذا الزواجِ من شرورٍ، خاصة وأَنني واثقٌ أن عروسي السابقةَ مسعدة سوف تقتلُ نفسها، وتقتل يوسف فخري في ليلةِ الدخلة، فقد أَرسلَت لي قبل أُسبوعٍ رسالة كتابيةً مع ابن اختها ربحية، واسمه نضال، تقول فيها:
- أَنا لم أُحب في يوم من الأيام غيرك يا سعيد، ولن أكون إلا لك ما حييت، فأنت حبي الأَول والأَخير، وطالما أَنني أُجبرت على الارتباطِ بهذا الكلبِ؛ فسوف أَقتله وأَقتلُ نفسي ليلة الدخلة، وهذا وعدي لكَ يا حبيبي سعيد، حرامٌ عليَّ الزواج إِلا منك يا حبيبي، وعلَى الرغم من أَن أَسماءَنا سعيد ومسعدة؛ إِلا أَنها لم تعطِنا إِلا عكسَ معانيها من التعاسةِ والشقاء للأَسف، فحالنا عكس أَسمائِنا، سوف أُحبك حتى تغادرَ روحي جسدها، ولا أَقول إلا أَنني أحبك أُحبك أُحبك مهما جرى، لا تنسَ زيارتي في قبري إِذا أنا متُّ يا حبيبي، فسأَنتظر زياراتك لي، ودعاءَك، وأَذكارك، وورودك، وأَنت تعرف أَنني أَعشق الياسمين، أرجوك أن تزرع ياسمينَة على قبري، وكلما خطرتُ على بالكَ وتذكرتني؛ هات ماءً، واسْقِ الياسمينةَ، واسقِني، فهذا ما سيسعدُني، ويُحيي روحي يا سعيد، أَتمنى لك السعادةَ التي كنتُ أَتمناها لنا، وانحرمنا منها أَيام كنت لي، وأَخيرا قُل معي يا سعيد: يا رب.
وأختمُ قولي بأنني مظلومةٌ، اللهم لا حولَ ولا قوة إلا بالله، عددَ خلقه، ورضا نفسه، وثقل عرشه، ومدادَ كلماته، يا رب إني فوضتُ أمري إِليك.
بدأت فرائصي ترتعدُ وأَنا جالسٌ على الشرفة بجانب والدتي، التي لم تتوقف عن كيل المسبات والشتائمِ لهؤلاء الناس الدون على حدِّ قولها، وكانت تعاتبُ وتشتمُ، وتتساءَلُ بصوت عالٍ وتقول:
- أنا مش عارف ليش الناس معمية أبصارها؟ صار كل إشي عندنا بالمقلوب، صار الصح غلط، والغلط صح، طيب ليش هذول الناس ببدوا الهامل على الكامل؟
ليش صار اللي ما بعرف يقرا ولا يكتب، وطولة عمره الطشية (فاشل) في المدارس أَحسن من أُستاذ المدارس؟
ليش صار الحارس أَو المتعهد والمقاول في المستوطنات الصهيونية، أَفضل من المقاوم للاحتلال، أو من الموظفين أَو المتعلمين الشرفاء؟
طيب إنت بقيت توخذ الأول على كل طلاب دفعتك، وفي التوجيهي جبت ثمانية وثمانين في المية الفرع العلمي، وفي الجامعة أخذت درجة شرف، ليش هذول الناس فضلوا عليك اللي بقى طولة عمره فاشل في التعليم، وما بفك الخط؟
ولا لأنه معه مصاري وعنده سيارة مرتبة؟ الله يلعن أبو كل هالناس، إذا ما هم غلط في غلط!
- طيب هذا يوسف فخري جاسوس، كم بنت اتقلدها، وخرب بيتها! صار أَحسن منك يللي طولة عمرك بتحب الوطن، وبتقاوم اللي محتلين، وبتحمي بنات وطنك وبتغار عليهن، وبتساعد المحتاجين، وليش هيذ يا فِلَسْطِينِيّة؟ وليش هيذ يا أهل فِلَسْطِين؟
لازم نعاقب الفساد والمفسدين، وين الأخلاق؟ وين الشرف؟ وين الأمانة؟ وين الكبرياء والكرامة؟ كلها داسها الاحتلال اليهودي، اللي سرق منا وطنا، وسرق منا عروبتنا وكرامتنا، الله يحرق الاحتلال وأَعوانه وأذنابه، الله يحيي الأسرى، ويرحم الشهدا، ويقوي كل الشرفا المقاومين الثوريين الوطنيين.
شو بدهم دار أبو مسعدة أحسن منك؟ أُستاذ كيميا ناجح، وبعدها صرت أَحسن تاجر، بسم الله وما شاء الله عنك وحوليك يا ابني يا سعيد، لا تهتم، ما بستاهلوا أظفرك، إحنا عارفين شو جيزات ربحية وزريفة! زي الذبان ما بهدين إلا على الوسخ.
كانت أُمي تتحدثُ بصوتٍ عالٍ كي أسمعَها في فوضى وضجيج الأصواتِ في عرس يوسف فخري، الذي ملأَ الفضاء، كانَت كل كلمةٍ قالتها تؤلمُني، وتزيدُ من حنقي وتكدُّري، وكأنها تضع الملحَ على الجرح، فأتأوه وأَتوجعُ، خاصةً أن روحي ما زالت متعلقةً في مسعدة، ومفاتيحي معلقة على صدرها، كان أكثر ما يثيرُ تَوتري وخوفي مرور الوقتِ بسرعة، واقتراب الموعد، كنتُ متأكدًا أَن مسعدة سوف تقومُ بتنفيذِ فكرتها، فأَنا لست آسفًا على قتلِ يوسف فخري، وإِنما بعضي يصارعُ بعضي بشراسةٍ؛ ليحثَّني على مساعدةِ حبيبتي المسكينةِ الفقيرة الصابرةِ البريئة، ما ذنبها أَن تقومَ هي بالفعل الذي يتوجبُ على الرجالِ فعلُه؟ لماذا تدفعُ مسعدة حياتَها ثمنًا لجرائمِ هذا الشخص؟
كان حبُّ مسعدة يجرفُني بشبابِه وعنفوانه، وينحدرُ بي إِلَى أبعد نقطةٍ في اللامنطق، تلك التي يكادُ يتحولُ فيها العشقُ في آخر المَطافِ إِلى الجنونِ أو الموتِ.
لماذا لا يقوم الرجالُ الشرفاء بقتلِه والتخلصِ منه؟ داهمتْ عاصفةٌ من الأَفكار جمجمتي ولوحت بها، فنتجت الصورةُ والفكرة، ورأيت الحلَّ الذي كانَ غائبًا عني.
نعم؛ أنا من سأَقوم بقتل يوسف فخري، مَن غيري عليهِ أَن يفتدي حبيبتي مسعدة، سأقتلهُ، جاء الوقت لأُريحَ حبيبتي وكل أَبناء وبناتِ شعبي من شرورِ هذا الفاسِدِ.
وقفتُ بقوةٍ على قدمَيَّ، وخرجت مسرعًا من الدار، استأجرتُ سيارةً، وقصدت صديقًا لي في مدينة (ر خ)، ترجعُ معرفتي به إِلَى أَيامِ دراستي في جامعة بير زيت، تحدثتُ إليه، وطلبتُ منه أَن يزودني بمسدسٍ لِأُنفذ مهمةً ضرورية، ولم يخيب أَملي، فقد أَخرج مسدسه من تحت وسادتِه، وأَعطاني إِياه، وضعتُه تحت حزامي، وأرخيتُ القميص فوقه، ثم عدتُ على عجلٍ إِلى القرية قبل انتهاء سهرة حناء يوسف فخري، وصلتُ قربَ الساعة الثانية عشرة منتصف ليلة الخميس، ووجدت دارنا عامرة بالسهر، أَبي وأُمي وأَبناء عمي حسن ومحمد؛ جميعهم ساهِرونَ على شرفةِ بيتنا.
فكرتُ مليًّا في وقتِ تنفيذ عملية القتلِ ومكانها، وقررتُ أَن أَقتله غدًا بعد العصر، عندما يخرجُ من باب دار الحاج ياسين العراقي قابِضًا على يد العروسة مسعدة، وستَكون هذه هي هديتي لمسعدة ولأهل قريتي.
تفاءلتُ، وسرَت السعادةُ في دمي، تقاطرَ العرقُ من جبهَتي ورأسي، وكأنني شربتُ دواءً مهدئًا، انفضَّت حفلة الحناء في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ورجع الناس إِلَى مهاجعهم، وعم الهدوءُ البلدَ، فلم يُسمع سوى صوتِ صراصير الليل، أَو كلب نابح، أَو حمار ناهق، واصلتُ السهرَ برفقةِ أُمي وأَبي وأَبناء عمي حسن ومحمد؛ على شرفة منزلنا الشرقية، تحدثنا كثيرًا، وضحكنا، وشربنا الشاي مع الكعك.
يقبضُ الهدوءُ على القرية على غير العادة، ويكبلُ الصمتُ الأشجارَ والأَحجار والأَسحار، وفي رحم العتمةِ؛ تتشكلُ الأَسرارُ، وتتحول إِلَى أقدار، تتسلل، وتتحرك ضاربةً بعرض الحائط كل التقاليد والمفاهيم والعادات، فجأةً؛ وبينما نحن منسجمون في حديثٍ ذي شجون، وبعد حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ انطلقَ صوتٌ مرعبٌ لرجل ما، كان صراخُه يصدر من أَعماق أَحشائه، ويعم كل أَجواء القرية، اقشعَرَّ بدني كله، وانتفضت مع هذا الصراخ المرعبِ الذي غزا كياني.
كان الصراخ ينطلقُ من دار العريسِ يوسف فخري، نزلنا بسرعةٍ أنا وأبناء عمي حسن ومحمد عن الدرج، وتبعَنا أُمي وأَبي، ركضنا إِلَى دار العريس التي لا تبعدُ عن منزلنا أَكثر من مائة متر، ازداد الصراخُ والاستغاثة، كانت البوابةُ مغلقةً، فقفزنا عنها إِلَى حوشِ المنزل، كذلك هرعَ رجال آخرون، ولما صعدنا على درج البيتِ؛ وجدنا البابَ الرئيسَ مشرعًا على مصراعيه، والرجل يصيح ويتشقلبُ مرةً على بطنهِ، ومرةً على ظهره، وبيديه يضرب بقوة على المصطبة، وعلَى كل ما يصل إليه، يسيلُ دمُه كدم الذبيحة، سألناه ما الخبر؟ فقال بصعوبةٍ وهو يصرخ:
- مرتي قمر الزمان قصت لي.. بسكينة من أساسه، وأخذته معها وخرجت.
بحثنا عن قمر الزمان، فوجدناها جالسةً في حضير البيت، شبه عاريةٍ، شعرها منفوشٌ، وعيونها يقدح الشررُ منهما، متسعةٌ لأربعة أَضعافِ حجمِها الطبيعي، تحملُ في يدِها اليُمنى سكينًا كبيرةً وحادّةً، ثم هددت بقتل نفسها إِذا ما اقتربَ أَحدٌ منها، طلبنا منها أَن تعطينا.. الرجلِ، ولكنها رفضت، وقالت:
- مش معي، أَنا رميته في جورة الامتصاص.
حمل بعض الرجال العريس يوسف فخري دون..، وأَدخلوه في سيارةٍ، وتوجهوا به إِلَى المشفى، لكنهُ فارقَ الحياة قبل وصوله إِلَى المشفى بسببِ شدةِ النزيفِ، حضرَ رجالُ الشرطة، وأَلقوا القبض على زوجَتِهِ قمر الزمان.
بحثوا مطولًا عن.. الرجلِ في كل مكانٍ؛ ليدفنوه معَهُ، فلم يعثروا عليه، واقتنعوا أَن قمرَ الزمان أَلقته بالفعلِ في المجاري، وهكذا ماتَ يوسف فخري قبل يومٍ مِما كُنا نخطط لهُ، كانَ هذا قدره وقدرنا أَنا ومسعدة، فالله سبحانه أعلم بالغيوب والأَسرار، وهو الذي افتدانا من الشرورِ، وكفانا شر هذا المخلوقِ؛ بأن سخَّر له مَن يقتلُه، وقد جنبنا دمَه، وجنبنا الحبسَ، وكل شرٍّ كان يتربصُ بنا، سواءً أنا أَو مسعدة؛ لأننا أَبرياء من كلِّ باطل.
لقد كان يوسف فخري دائم التباهي بذكورتهِ، لقد قُتل زير النساء قبلَ ليلةٍ من زفافه على مسعدة؛ بواسطةِ زوجتِه الثانية قمر الزمان؛ ضحيةً لأَعز ما كانَ يملكه، يحلفُ ويقسمُ ويبر به في كل مناسباتهِ، لقد قُتِلَ بسبب أكثر شيءٍ كان يحبُّه في حياتهِ، ومن الحب ما قَتَل.                 
تجمَّعَ كثيرٌ من أهل القريةِ حول دار يوسف فخري، هذا يُعلق، وذاكَ يسأل، بعضهم يتهامسون، وبعضُهم يُجاهرون في طبيعةِ الحدث وتفاصيله، والكل متأثرٌ بهذا الحدث المفجع والمفرح في آنٍ واحدٍ، وبينما كنتُ أقفُ مع صديقٍ لي نتجاذبُ أَطراف القولِ والهرج والمرج بتأثرٍ واضحٍ يهز كل خليةٍ في بدني؛ لمحتُ مسعدة واقفةً تنظر نحوي، فاستأذنتُ من صديقي، وركضتُ مسرعًا إِليها: 
- مسعدة، الحمد لله على سلامتنا، ومليون مبارك، الحمد لله اللي كفانا شر هذا الشخص، والحمد لله على سلامتك وسلامتي حبيبتي، أنا هلكيت إتأكدت إن الله معنا، كنت خايف كثير إنك إنتي تقتليه، أو أنا، وانضيع في السجون بسببه، ولما بعثتيلي إنك ناوية تقتلي يوسف فخري في ليلة الزفاف، قررت بيني وبين حالي، إني أَنا اللي لازم أقتله، وما أسمحلك إنك إتوسخي إيديك فيه، فجهزت مسدس، وكنت ناوي أقتله عند طلعتكوا إنت وياه من دار أَبوك في الزفة، شو رأيك في هالحكي؟ كمان لا تنسي مصائب قوم عند قوم فوائد.
- حبيبي سعيد، أنا ما بأشك ولو واحد في المية في إنك صادق؛ لأنه ربنا سبحانه وتعالى افدانا من هالمصيبة، وزي ما بقولوا في الأَمثال (رب ضارة نافعة)، وبقولوا كمان (انقلب السحر على الساحر)، فربنا سبحانه وتعالى جنبنا كل العبث اللي خرب حياتنا، ع شان هيذ يا سعيد، مثل ما قال الأديب الإنجليزي شكسبير: "نكون أَو لا نكون؟ وهذا هو السؤال!".
سعيد حبيبي، شو بدك نعمل هلكيت، أنا ما بأسمح لأي شيء يخرب علينا، وبلاش نضيع الوقت حبيبي، حرام، حرام نضيع فرصتنا هذه من بين إيدينا، يلا، يلا.. 
- اسكتي يا مسعدة، خلص ما ظل حكي ينحكى فيه، الليلة الجاي دخلتنا إن شاء الله.
- سعيد، قول يا رب، اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله.
- يا رب لك الحمد ولك المنة، بس أخوك موسى ومرته زريفة، وأختك ربحية، كلهم بنجنوا، وبصيروا يطاردوا ورانا مرة أخرى.
- الله يحرق هالمذكورين كلهم، والله إلا أَضرب كل واحد فيهم بكندرتي على راسه، أنا مش مسعدة ابتاعة زمان، زمان أول حول، كلهم ينصرفوا، كلهم ينحرقوا، ما بأسمح لحدا يتدخل فيا، وهلكيت أنا جاهزة لأي شي تطلبه مني، شو بدنا إنساوي يا حبيبي؟
- بكرة على خير، الساعة عشرة بنلتقي، وبنروح على المأذون، وبنوخذ شهود، وبنعقد القران، وبعدها بفرجها الله.
- أنا بدي هلكيت أجي معك، ما بدي أستنى لبكرة.
- كلها أكم ساعة وبطلع النهار، بتخبري أمك وأبوك بس، إنو إحنا رايحين نتجوز اليوم.
 في تمام الساعة العاشرة صباحًا؛ التقينا أنا ومسعدة ووالدها الحاج ياسين في المحكمة الشرعية، وطلبنا من شابين أَن يشهدوا على زواجنا، وقد تم عقد القران دون أَي تعقيداتٍ.
خرجنا من المحكمة الشرعية، وتوجهنا إِلَى مطعم صحتين وعافية، وأَكلنا الحمص والفول والفلافل والشطة، وشربنا عصير البرتقال، وذهبنا إِلَى محل عدنان دعنا للحلوياتِ في شارع المدبسة، وأكلنا الكنافة، وشربنا القهوة الْعَرَبِيّة، ثم توجهنا إِلَى فندقٍ اسمه (والله زمان)، واستأجرنا غرفةً زوجية بحضور الحاج ياسين، الذي ودَّعنا حينها بعد أن اطمئن علينا، وغادرَنا مباشرةً، وقد أَعلمنا الموظف أَننا عروسان.
  ذهبت مسعدة إِلَى صالونٍ للسيدات لتتزيَّن، واشتريتُ بعض اللوازم لي ولها، وفي تمام الساعة الثامنة مساءً؛ اتصلَ بنا موظفُ الاستقبال في الفندق، وطلبَ منا النزول إِلَى القاعة، وإذ بالقاعة تعجُّ بالناسِ، وتتوسطها فرقةٌ موسيقية تعزف موسيقى الزفاف، خطونا داخلَ القاعةِ؛ وإِذ بكل أَهل مسعدة وأقاربها وأَهلي وأَقاربي يلتمُّون حولَنا، والكلُّ بينَ مُسلمٍ ومُباركٍ ومُهنئٍ، حيث عانقني أَبي وأُمي وإخوتي، وكذلك والد مسعدة ووالدتها، وأَخوها موسى وزوجته زريفة، وأُختها ربحية وزوجها وأَولادهم، وصارَ الكل يهتف: سعيد ومسعدة وبس..
وُزِّعت الحلوياتُ والمشروبات، وزغردت النساءُ، وصدحَت الفرقةُ الموسيقيةُ بِأَجمل الموسيقى والأَغاني، حيث ابتدأت بأغنية (تع ننسى) للفنان اللبناني ملحم بركات، رقصَ الكلُّ فرحًا وطربًا ونشوةً بهذه الليلة النادرةِ والفريدة، والتي جاءت لتنهي أخيرًا فصولًا من الفراقِ والمعاناة والحقد والكره والحزنِ والتعاسة، فرحَ الجميعُ لهذه النتيجةِ الحتميةِ كثمرةٍ للحُبِّ والودِّ والأُلفة، ولانسجام الأَرواحِ وإِصرارها على التلاقي، علَى الرغمِ من كلِّ الظروفِ الشاذة والمعقدةِ التي واجهتنا، وعلَى الرغمِ من كل أَهواء البشر المزيفين المنافقين، الذين وقفوا في طريق سعادتِنا أَنا ومسعدة لسنين عديدةٍ، ومكروا مكرَهم، ومكرَ اللهُ لهم، والله خيرُ الماكرين.
 
  تفاجَأتُ عندما سمعتُ والدي يعلنُ عبرَ مكبر الصوت بأنه يتقدمُ بهديةٍ بسيطة للعروسين مسعدة وسعيد، متمنيًا أَن تنال إعجابنا، وهي عبارة عن رقصةِ السامر الْفِلَسْطِينِيّ، تؤديها فرقة تراثية تُدعى فرقة التراث الشعبي الْفِلَسْطِينِيّ الأصيل، نزلت الفرقةُ بصفين متقابلين، كل صفٍّ منهما تعدادُه خمسة عشر رجلًا، يرتدون الزي الْفِلَسْطِينِيّ التراثي، وهو عبارة عن الكبر (القمباز)، والحطة، والعقال، والسروال الأَبيض الواسع، وقد غَنوا، وهزجوا، ورقصوا في لوحةٍ فنيةٍ سحريةٍ، أَسعدت قلبي، ورفعت معنوياتي، وأَطربت روحي، كانت مجموعةٌ منهم تبدأُ القول والمجموعةُ الثانيةُ تردُّ عليها بالتصفيقِ والرقص، وبإِحناء الظهر ورفعه على نفس المقام كالآتي:
خذلك كلام زين وأعطينا زيه
يللي كلامك عسل والسمن فوقيه
  *******
عاليوم عاليوم لو إنو الرفق بدوم
لشيل رايات وأبني عالطريق رسوم
  *******
يا شمس عند المغيب تفقدي الأحباب
وتفقدي مين حضر وتفقدي مين غاب
  *******
يا دار يا دار وأن عدنا كما كنا
لطليك يا دار بعد الشيد بالحِنا
  *******
يا دار يا دار وإن عاد جميع أهلك
لأعزم شباب البها ترقص على ظهرك
  *******

يا دار يا دار مين دقق مراسيك
وإحنا الشباب باسمك ع مين يعاديك
  *******
وإن قدر الله وخلتنا منايانا
والحنظل المر لنسقيه لعدانا
  *******
وإن قدر الله وخلتنا الليالي السود
لنصحن القوم صحن الكحل بالبارود
  *******
قاعد على الرجم لا تأمن من الحية
من عاشر الزين يسلى شربة المية
  *******
قاعد على الرجم لا تأمن من العقرب
من عاشر الزين لا يوكل ولا يشرب
  *******
  في آخر السهرةِ؛ أخذ الحاج ياسين الميكرفون، وقال: 
- أَلف مبروك لسعيد ومسعدة وللجميع، وأحب أن أعتذر لسعيد وعائلته عن كل ما جرى وصار بيننا في السابق، وأعطي الكلمة لابني موسى.
قال موسى:
- أَلف مبارك لسعيد ومسعدة، وربما تتساءَلون عن سبب تغير موقفي منكم، ولكني أشكركم لأنكم أنتم بإصراركم على التمسك ببعض، ومثابرتكم، علمتموني درسًا مهمًّا، وهو أن أهل الحق دائمًا هم المنتصرون، أما أهل الباطل فهم الخاسرون ولو بعد حينٍ، أعدكم أَنني سأعوضكم عن كل ما سَببته لكم من أذى في السابق، وأكرر مباركتي لكم، ولجميع أهل سعيد، وفقكم الله لما يحب ويرضى.
أخذ الميكرفون الحاج ياسين مرة أخرى، وقال:
- حاب أسأل سعيد ومسعدة اليوم: شو رأيكم باللي صار معكوا من أول مرة كنتوا مخطوبين فيها لبعض، وبعدها لما الشيطان تدخل وفرقوا عن بعض، شو رأيكوا بهالأحداث اللي صارت معكوا لحد هذا اليوم؟
 تحدثت وقلت:
- أول شيء الحمد لله رب العالمين على السراء والضراء، وما توفيقي إلا بالله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، خاتم الأنبياء والمرسلين.
الصحيح أَني لم أَذق طعمًا للراحةِ ولهدوء البال منذ انفصلنا عن بعضنا أنا وحبيبتي مسعدة، نعم أنا حاولت أن أجد امرأة غيرها مرتين، ولكني لم أقتنع مطلقًا أني وجدت لمسعدة بدلًا، وعشت في همٍّ وغم، وعشت تعاسة لا مثيل لها؛ لأَنني فقدت حبيبتي ورفيقة دربي منذ الطفولة، فالزواج أَساسُه التفاهم والمحبة، والالتقاء في الأفكار، والتشارك في الصغيرة والكبيرة، الزواج ليس أن يشترك الرجل والمرأة فقط في تبادل الجنس، فالجنس هو الغريزة المشتركة بين الإنسان وسائر الحيوان، ولكن هناك الكثير الكثير من نقاط الالتقاء والارتباط بين الزوجِ والزوجة، والتي تسمو على الغرائزِ، والتي لم تُخلق إِلا للإِنسان، فالجنس يأتي حصيلةُ حاصلٍ، فالوعي، وخفة الدم، والعقل النابضُ بمعاني الوعي والطاقة الإِيجابية، وكذلك الروح المنطلقة التي تعانق الحياةَ وبهاءَها وجمالها؛ كلها تساعدُ على تعزيزِ فرص السعادة وتوفيرِها بين المرأةِ والرجلِ، لحياةٍ مشتركةٍ أفضل بينهما، وتقللُ من صعوبات وتعقيدات الظروف.
قالت مسعدة:
- أَنا أحمد الله وأشكر فضله الذي أكرمنا أنا وسعيد، ومَنَّ علينا بالالتقاء أخيرًا بعد طول الرحلة وعذاب الحل والترحالِ، وطول السفرِ في دروبِ الحياة الوعرة والخطرةِ، التي كادت تقضي على كلينا، وتؤدي بنا إِلَى التهلكة أنا وحبيبي سعيد؛ مهجة قلبي وقرة عيني، فكم واجهنا من عناء الروحِ، وإِجهاد القلبِ، وتوتر العقل خلال السنوات العجاف التي مضت، أَنصح كل الأهلِ بأَلا يتدخَّلوا في اختيارات أَبنائِهم لشركاء حياتِهم، وإنما يساعدونَهم في خياراتهم، ويساعدونهم في أَشياء كثيرة، وأَلا يفرضوا عليهم أَزواجًا غصبًا عن إِرادتهم وبالقوة، فإِن إِجبارَ الفتيات أَو الشباب على الزواجِ ممن لا يحبونَ ويرغبون هو أَساسُ خرابِ بيوتهم وتعاستهم، وهو بداية مشوار التعاسة الأَبدية لهم، وإن سعادة الشاب والفتاة تكمن في الارتباط بمن يثقون به ويُحبونه، لذلك فسوفَ يعيشون سعادةً مستمرة مع بعضهم، وخاصة أنهم سيتحملون مسؤولية قرارهم في اختيار كل منهم لشريكِ حياته، في النهايةِ؛ أَستطيع أن أقول إِن السعادةَ والتعاسة الأُسرية في الحياة تَعود لقرار الاختيار الصحيح لشريكِ حياتنا، يجب على الوالدين، وعلى الشاب والفتاة؛ أَلا يستهينوا في دقةِ اختيارهم للشريك، لذلك إِذا أَراد الإِنسانُ أَن يعيش سعيدا؛ فَعليه أَن يختار شريك حياتهِ بِنَفسِه، لا أَن يسمحَ لوالديه أو إخوته أَو أخواته أو زوجات أخوته أو خالته أو عمته أَن يفرضوا عليه شريك حياته، فأَساس النجاح في الحياة عمومًا هو الحريةُ في اختيار الشريك المناسب للزواج، سواءً للشاب أو الفتاة، مع مساعدة الوالدين والأسرة لهما في كل مراحل حياتهما، وشكرًا للجميع.
  بعد هذه الكلماتِ؛ تقدم كثيرٌ من الأَصدقاء والأَهل بتقديم النقوط السخي، وأَصر والدي أَن نعود معه إِلى بيتنا، لكني وعدته أَن نرجع بعد أٌسبوعٍ، أما موسى شقيق مسعدة؛ فقد أصرَّ علَى دفع فاتورة الفندق.
  بعد أَن قضينا أُسبوع العسلِ الأجمل في فندق (والله زمان)، وبناءً على إِلحاح والدايَّ؛ عُدنا إِلَى شقتِنا في منزل والدي محمود، بتاريخ الخامس عشر من شهر آب، لعام أَلفٍ وتسعمائة وستة وثمانين ميلادية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بقلم الرائع أ/شوكت صفدي/////

"... نسيت وجعي، تعطر حزني بالحرية، نأيت عن أزمنة الشقاء، أزمنة الموت قهراً، وتوقفت معك لحظات الحلم، مبللين بأمطار تشرين ورعود تشرين ورياحه ووريقاته فوق قارعة الطريق القديمة، وعطره الخريفي.. وكانت جميعها تعزف موسيقا رقصتنا !.. جزء مني عاد إلى جسدي، وظل جزئي الآخر يرقص بين أطيافك.. سألتني أن نجعلها ألف عام قادمة.. وقلت، بل أريدها أن لا تنتهي خلود الزمن... لم تنقطع موسيقى الوجود لحظة، ولم ينقطع عزيف المطر والريح فوق النافذة، ونيران الموقد لم تخمد جواري... ومراهقتي التي هربت زمناً، ها هي تركض فوق الطرقات عائدة إلي، ترقص تحت المطر.. وشبابي المهاجر يستقبلني بشعر أشقر.. وطفلي الضائع في الغربة، يرجع من الفرار الى صدري، وإلى حضن وطن.. " يا عطر " . " عطر خريفي : من رواياتي "

بقلم الرائع أ/محمود عمر/////

«شرفة العمر الحزين» *********** عشت عمري كله شتاء وخريف وظللت أحلم كل يوم أن يأتي الربيع وطال بي الانتظار في شرفة العمر الحزين أتدثر بالأمل كلما اشتد بي الصقيع وكلما مر عام أنتظر البشارة تأتي في عام جديد يأتي فيه الربيع مرت الأعوام تباعاً عام خلف عام خلف عام والأيام تزداد قسوة والعمر شيء فظيع كم تمنيت أن يسرع الخطى ولكن الأمنيات عندي مستحيلة في زمن القساوة شنيع لم تشفع عنده طيبة القلب... ولا طيلة الصبر على الأحزان... ولا كثرة جروح الروح وآلام القلب وكأن الفرح علي منيع...!! حتى جاءني سهم الموت في وتين القلب من سند الحياة ممن ادخرته للأيام عوناً وليت الموت وقيع  لأذوق الموت مراراً  وطعم السكرات مرير...!!  أيا موتاً يأبى  يقربني  ألا لك من سبيل أسلكه...؟!  أو باباً أكون له قريع...؟!  لأترك دنيا نكرتني  فكرهت كل ما فيها  فكل ما فيها وضيع  فامدد يدك بكأس المنايا  فكم تجرعت أمر منه...!!  ولم أشتك يوماً  وكن معي خير صنيع...!!  محمود عمر

بقلم الرائع أ/عبد الرحمن القاضي/////

"غَزَليَّة" في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا نَدنوْ مِنْهُ ولا يأتيْنا نُهدِيْ عِطْرَ الحُبِّ إلَيْهِ ويُعَشِّمُنا ويُمَنّيْنا فَرْدٌ مِنْ عائِلَةِ الوَرْدِ يَنْضَحُ فُلّاً أو ياسَميْنا يَضْحَكُ إنْ قد كُنْتُ سَعيداً أو يَبْكِيَ إنْ صِرْتُ حَزيْنا ما في قَلبِيَ إلّا أنْتَ أمّا غَيْرُكَ لا يَعْنيْنا في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا... ! #عبدالرحمن_القاضي