التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بقلم الرائع أ/فوزي نجاجرة/////


الحلقة (٢٠) من رواية ستشرق الشمس ثانية :
بعد اندلاع الانتفاضةِ الأُولى عام ١٩٨٧م؛ عاشت بلادُنا فِلَسْطِين ظروفًا صعبة جدًّا، وكانت مجرياتُ الأَحداث فيها تتدحرجُ ككرةِ الثلج، وأَصبحنا ننامُ ونستيقظُ على مداهماتٍ ليليةٍ من قِبل الجيش الإِسرائيلي المحتل، وعلى الاعتقالات، وعلى القتل والتخريبِ الذي يمارسه جيش الاحتلال بحق أَبناء شعبِنا، لقد شكلت الانتفاضة الأولى ثورةً حقيقية ضد الاحتلال الصهيوني الاسْتِعْمَارِيّ بكل معنى الكلمة، والتي شارك فيها الكل الْفِلَسْطِينِيّ، وقد استمرت نحوَ سبعَ سنواتٍ عجاف، لكنها حولت الواقعَ الموجود إِلَى واقعٍ آخر، جوهرُه الوحدة الوطنية الْفِلَسْطِينِيّة بين شرائح المجتمعِ كافةً، تحت قيادة (ق و م)، والتي تعني القيادة الوطنية الموحدة، وتحت شعار (لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة)، ومنظمة التحرير هي الممثلُ الشرعيُّ والوحيد للشعب الْفِلَسْطِينِيّ، فقد صارَ الجميعُ يحلم بالتخلص من الاحتلالِ، وينشد الاستِقلالَ، والحريةَ، وعودة اللاجئين إِلَى قراهم ومدنهم التي هُجروا منها عام 1948م، وكذلك قيام الدولة الْفِلَسْطِينِيّة المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف.
عانينا الكثير في خضم التحولات السياسية والنضالية والاقتصادية على أَرض الواقع، وأَستطيع القول إنه لا يوجد إِنسان فِلَسْطِينِيّ في الضفة الغربية والقدس وفِلَسْطِينِيّ الداخل وقطاع غزة إِلا وعانى المُرَّ من ويلاتِ الاحتلال الغاشم، وفي السنةِ الثالثة من اندلاع الانتفاضةِ الشعبيةِ؛ سُجِنتُ، واصطحبني الاحتلالُ أَسيرًا في سجنِ النقب الصحراوي عامًا إداريًّا كاملًا.
في ليلةٍ من ليالي شهر شباط لعام ١٩٨٩م؛ كان الجيش الإِسرائيلي العنصري يفرضُ منع التجول على قريتنا صابرين، وعند الساعة التاسعة مساءً، وبينما كانت السماء تمطرُ؛ ذهبَ أَخي محمد الصغير ابن التسعة أَعوامٍ، إِلَى بيتِ عمتِه لطيفة؛ ليبحثَ عن خبزٍ لتأكله الأسرةُ، بعد أَن نفدَ كل الخبز من البيت؛ جراء منع التجول المفروض علينا من قِبَل الجيش الصهيوني العنصري، وبعد ابتعاده عن البيت بنحو مائة مترٍ؛ سمعنا صوتَ طلق ناري، وتبعه صراخٌ مؤلم، فخرجنا مسرعين باتجاهه،ِ وكنتُ أَولَ من وصله، وجدتُ أخي محمد يصرخُ وهو ملقى على التراب والوحل، دمه يسيل من رجلِه، رفعتهُ بين ذراعي، وهممتُ أَن أنقله إِلَى البيت؛ فَهاجمَني أكثرُ من عشرين جنديًّا إِسرائيليًّا، كانوا ملثمين ومتخفين في لباسٍ عربيٍّ فِلَسْطِينِيّ، ويضعونَ الكوفيات والعقال، وأَخذوا أَخي مني، وانهالوا عليَّ بالضربِ، ووضعوا القيودَ في يدي وفي قَدمي، واقتادوني تحتَ الضربِ بأَيديهم وأعقاب بنادقهم، إِلَى دباباتِهم التي كانت مخفيةً، على بُعد حوالي أَربعمائة مترٍ من حارتنا، أخذوني إِلَى مبنى المقاطعة، المعروف بالبصة، في مدينة بيت لحم، ووضعوني في غرفةٍ كبيرةٍ مكتظة بالشباب المعتقلين، ولم يتوقفوا أَبدًا عن ضربنا وتعذيبنا بشكلٍ منتظمٍ ومستمر، كانوا يدخلُون علينا زرافاتٍ زرافاتٍ، ويوسعونَنا ضربًا وشتائمَ، فقد كانَ كثيرٌ منهم رياضِيين ذوي بنيةٍ قويةٍ، مدربين على رفع الأثقالِ وغيرها، وهم مُتخصصون بِضربِ الأَسرى الْفِلَسْطِينِيِّين، وقد نالني الحظ الوفيرُ من الضربِ، ومن معاملتهم العنصرية التي احتفلوا بنا فيها ليومين، ثم قاموا بتقييدِنا بالقيودِ ثانية، وأَغمضوا عيوننا بعُصاباتٍ، ونقلونا في باصٍّ كبيرٍ إِلَى معتقل النقبِ الصحراوي، وهناك أَعلموني أَنني معتقلٌ إِداري لستة أَشهر، وقالوا إن اسمي من الآن وصاعدًا هو رقم (# # # # #)، وعليَّ أَن أَحفظه، لأنهم هنا لا يتعاملون بالأسماء، فقط يتعاملون بالأرقام.
لقد ضُربت، وتلقيتُ الإِهانات والذل في الأسر، وعانيتُ من الجوع والعطش كثيرًا، ولكن علَى الرغم من ذلكَ؛ لم يكن يعني لي كل هذا التعذيب شيئًا؛ لأَنني أَعرف أَنهم يعذبوني من أجل أن أَتنازل لهم عن أَرضي ووطني فِلَسْطِين، إنهُ وهمٌ كبيرٌ يُعششُ في رؤوسهم المليئة بالأَنانيةِ والطمع والشر، أَمضيتُ ثلاثة أَشهر دون أي وسيلةِ تواصلٍ مع أَهلي، أَو مع محاميَّ، أو مع مندوب الصليب الأحمر، غير أنَّ ما كان يقلقني حقًّا هو مصيرُ شقيقي محمد، فمنذ ليلةِ اعتقالي لم تصلني أَيُّ معلومةٍ تُطمئنُني عنه أَبدًا، بعد ثلاثةِ أَشهرٍ استَدعاني أَحدُ الجُنودِ، واقتادَني إِلَى مكانٍ مُظلمٍ، وجدتُ فيه محاميتي، وتدعى (م ر)، قالت:
- اطمئن؛ فإِن أَخاكَ في حالةٍ جيدة، ولكن تم بترُ رجله اليسرى من الركبة على إثر الطلق الناري الذي تلقاه من أَحد الجنود العنصرين في ركبته اليسرى ليلة اعتقالك قبل ثلاثة أَشهر، وهو يمكثُ الآنَ في مشفى في مدينة رام الله، استمرت المقابلة مع المحامية عشرُ دقائق، ومن ثم أرجعني الجندي إِلَى القسم.
كان يقبعُ في هذا السجن العنصري اثنا عشر أَلف أسيرٍ من خيرة رجالِ فِلَسْطِين، وقد حول العنصريون أَسماءَهم إِلَى ارقام، كلٌّ له رقم فقط، فمنهم العمال والفلاحون والرعيان، والطلبة والمعلمون والمهندسون والأطباء، ومنهم الأدباء والفنانون، ومنهم الشيب والشباب، والأَشبال القاصرين، وتهمتهم الوحيدة: أَنهم فِلَسْطِينِيون، ومطلوبٌ منهم أَن يسكتوا عن سرقة بلدهم فِلَسْطِين، وأَلا يعترضوا على ذلك، وهكذا هي المعادلة.
تعدُّ رحلة الأَسير قطعةً من الجحيم، فمِن أَصعب ما يواجهُه الأسير الْفِلَسْطِينِيّ حرُّ الجو الصحراوي، فحرها لهبٌ حقيقيٌّ في أَشهر الربيع والصيف والخريف، لا الليل ليل، ولا النهار نهار، كنتُ في خارج السجن أَعتقد أَن النهار ذكرٌ والليل أُنثى، ففي النهار العملُ والتعب والحر والكر والفر، أَما الليل فهو أُنثى بكل معنى الكلمة؛ الستر، الهدوء، السكينة، والجو المعتدل، أما في سجن النقب الصحراوي؛ فنهاره ذكرٌـ وليله تحول إِلَى ذكر، ومن غلاةِ القساةِ الظالمين؛ صارَ نهار السجن كريهًا، وليله أَكثر كرهًا.
أما الأَكلُ فَطقسٌ خرافي في الأسر، فمخصص الأَسير من الأكل لا يشبعُ قطة، يعاني الأَسير من الجوعِ طوالَ مدةِ الأَسْرِ، إِضافةً إِلَى العزلة الاجتماعية عن أَهلهِ ومجتمعِه، وعن العالم أَجمع، ولا أَنسى التوترَ والقلق والخوفَ من مفاجَآتِ المستعمرين الأَجانب العنصريين.
جرت العادةُ أنه عندما يُنهي الأَسير مدة محكوميتِه؛ يقوم إِخوانه ورفاقه الأسرى بتوديعه، وذلك بعمل حفلِ وداعٍ متواضعٍ له في ليلة الإِفراج عنه، بعد أَن أَمضيتُ مدة محكوميتي، والتي بلغت ستة أَشهر؛ وفي آخر ليلةٍ لي في الأسرِ؛ قام الأسرى بعمل حفل وداعٍ لي، فَحضرَ كل من يحبني من أَصدقائي وإِخواني ورفاقي ومعارفي إِلَى خيمتي في تمام الساعة التاسعة مساءً، كانَت سهرةً خفيفة امتدت لما يقارِبُ الساعة، وتخللها الأَغاني الكفاحية والثوريةُ، وبعض الأَشعار والأَقوال التي تعبر عن المناسبة، وتمنى الكل لي الخيرَ، وبعدم العودة إِلَى المعتقل ثانيةً، وحَمَّلني بعضُهم أَماناتٍ لِإِيصالِها إِلَى أَهاليهم، مثل نقل أَخبار الأسير، وطمأَنة أهله عنه، انتهت الحفلة، ولم تغمض لي جفونٌ طيلة الليل، كنتُ أَتأمل صور أحبتي؛ والداي، وإخوتي، وأَخواتي، وزوجتي مسعدة، وأَبنائي، وأتخيل كل واحدٍ منهم وهو يعانقُني، ويحتضنُني، ويقبلني، وأتصور نفسي وأنا أضحك عندما أَرى كل واحد منهم، فرحة كبيرةٌ، وسرورٌ غامرٌ اجتاحني، وخاصةً أنني أنهيتُ مدة الحكم البالغة ستة أشهر، وأنا الآن أَتهيأُ للخروج غدًا سالمًا من هذا (الأشوفيتس العنصري) ، انقضت الليلةُ متثاقلة بطيئةً، وأَشرقت الشمس في صباح منتصف شهر آب لعام ١٩٨٩م، وصارت كل دقيقةٍ تمر أَبطأ من التي قبلها، حتى وصلت الساعة التاسعة صباحًا، وهو موعد إِعلان أَرقام الأسرى المفرج عنهم في هذا اليوم، وهنا تقدمت مع حوالي تسعة أَسرى نحو بوابة المعتقل، جاء العسكري، وأَعلن الأرقام، ولم يذكر رقمي، تقدمتُ منهُ، وسألته:
- ماذا عني أنا؟ لم تعلن عن رقمي!
- أنت تم تمديدك لستة أشهر أُخرى، يا كلب يا ابن الكلب، انصرف إِلَى خيمتك، ولا تخرج منها، فاهم؟ سامع؟ يا..
مع حرارة صحراء النقب اللاسعة، ومع خيبةِ الأمل الصاعقةِ؛ غبشت عيناي، وشعرتُ بدوخةٍ وغثيان في رأسي، وبدأت معدتي تجيشُ بأحماضها، استدرتُ نحو الخيمةِ، وتقدمتُ بتراخٍ والغضبُ يملَؤُني، اجتمعَ الأسرى حولي، والكل يعانقُني ويواسيني.
دخلتُ الخيمة، جلستُ على البرش، حاولت أن أبكي فلم تطاوعني أَحاسيسي، ووجدت عينيَّ تعفر دموعًا ساخنةً؛ لتمسحَ عن وجهي التوترَ والغضب، انفجر إِخواني ورفاقي غناءً وصيحات بالأغاني الوطنية، والتي تمجد فِلَسْطِين وشعبها، وتتوعدُ المحتلَّ المستوطنَ بالنار، وتدعو إِلَى الحرية والاستقلالِ، إِن الإِحباطَ الذي واجهَني هذا اليوم يُعد من أَقسى أَنواع القهر والتعذيبِ الذي واجهني في حياتي، ومن أَشدها إِيلامًا، ناهيك عن الخذلان الذي استوطن نفوس أفراد أُسرتي في القرية، عندما هيأوا أَنفسهم لاستقبالي، وأُحبطوا بعدم خروجي من السجن، إِذ صُدِموا وغضبوا لِمَا ألمَّ بي من مصيرٍ مؤسف.
في ليلةٍ من ليالي تشرين الثاني الماطرة، وبينما كنتُ أُفكر في حاجتي إِلَى رؤية زوجتي مسعدة، وابنتي تحرير وأمل، وابني ثائر؛ كانت الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، عندما سمعتُ صوتَ خمس طلقاتٍ حية تلوثُ جو المعتقل، مصدرُها الجندي المتمركز في أحد أَبراج الحراسة الأربعةِ في قسمنا، اندفعتُ خارجًا من باب الخيمة حافي القدمين، وإِذ بي أُشاهدُ جثةً معلقةً على أَشواك أَسلاك السياج الذي يحيط بالقسم، وعلى ارتفاعِ ستة أَمتار، كانت أرجل الشاب معلقةً في أعلى السياج، ورأسُه مدلى إِلَى الأسفل، استيقظ جميعُ الأسرى، واهتاجوا لقتل هذا الأسير الأعزل واستشهاده، ودبَّ الصراخ والهتافُ والذعر في صفوف كل الأسرى، ودوت صافراتُ الإِنذارِ في كل الأقسامِ، وعلَت في سماء صحراءِ النقب، وفي لحظاتٍ تمت محاصرتُنا بعشرات المدفعيات، ومئات جنود المشاة من قوات المظليين وقوات جولاني المجرمة، وتحول الليلُ إِلَى جحيمٍ لا يوجد فيه إِلا أصوات الرصاص وأَصوات الطوافات العسكرية، ومكبرات الصوت التي تزعقُ وتهدد بقتل كل أَسيرٍ خارج خيمتهِ في جميع الأقسام، أَضف إِلَى ذلك هجوم الجنود علينا بالغازات المسيلة للدموع، وانقضاضهم علينا بالهراوات، وبأعقابِ بنادقهم، وبالعصي الكهربائيَّة، تم إِحراقُ العشرات من خيم الأسرى، ومع بدايةِ طلوع النهار؛ تم السيطرةُ على كل الأسرى في كلِّ الأقسام، وتبيَّن أَن الشاب الذي استشهدَ كان من مخيمِ بلاطة للاجئين الْفِلَسْطِينِيِّين في منطقة نابلس، وأَصله من مدينة يافا، ربما كان يحلم عندما قام من نومهِ، وخرج من خيمته، وتسلق السياج، دون إِدراكٍ منه، فلو كان صاحيًا لما قام بهذه المجازفة الفاشلةِ، فإِن التحصينات القائمةَ حول المعتقل خرافيةٌ، بل معجزة، ويستحيل معها فرارُ أَي أَسير، وهذا ما حدث في تلك الليلة التي تجردت من أُنوثتها، وانقضت علينا كالوحش المفترس، إن كل لحظةٍ من لحظات السجن جحيم لا يطاق.
إِنها صفحةٌ من صفحات الملحمة الْفِلَسْطِينِيّة، التي كانت شيئًا لا يذكر مقارنةً بِما يتعرضُ له أَبناءُ شعبِنا الصابر الصامد البطل في مختلفِ ساحاتِ النضالِ؛ من أَجل مقاومة الإِرهاب الصهيوني المتخلف عقائديًّا وإِنسانيًّا.
تحررتُ من الأَسر، وما زاد من قهري وعذابي؛ هو منظرُ رِجل أَخي محمد المبتورة من ركبته، فقد رفضتُ هذا المشهد، وتمنيت لو أَنني مت ولم أَقف قبالته وهو بهذه الحالة، وتساءلت كثيرًا في نفسي: هل يوجد في هذا الكون ما يبررُ هذا الظلم؟ إِنه طفل في عمر الزهور، عمره تسعُ سنواتٍ، جريمته أَنه ذهب ليبحثَ عن قطعة خبزٍ في دارِ عمتهِ؛ ليوقف جوعهَ، بينما كان الحصار والجوع يُفرضُ من قبل هؤلاء المجرمين على كل أَهل قرية صابرين.
اعتاد الجنودُ الصهاينة مداهمة المواقع الْفِلَسْطِينِيّة كافةً، وقد لاحظتُ بعد تحرري من الأسر أَنهم ازدادوا وحشيةً وعدوانية، ففي كل نهارٍ وليلٍ نجدُهم يحاصرون قريتنا، ويداهمون كافة الحارات والأزقة، وفي كثيرٍ من الأحيان يدخلون البلدَ بالمجنزرات العسكرية، التي يحتمي بها جنودُهم من حجارة الأطفال الرافضين لاحتلالهم، فكلما سمعنا صفير الشباب نتأكدُ أَنَّ الجيشَ الصهيوني قد دخلَ القرية، فنحتاطُ، ونأخذُ حذرنا، ومن كثرةِ أعمال الإِرهابِ والتخريبِ الذي يُحدثه جنود الاحتلال؛ صارَ الكل يكره حضورَهم إِلى حارتِه أو بيته، إن صوت المجنزرات المرعب المختلطَ مع الشر الكبير الذي يسببُه الجنودُ لأهل القرية كان مؤذيًا حقًّا، فبمجرد سماع صوتِ جنازير الدبابةِ؛ فإِنك تدرك أَنك ستتعرضُ لهجومِهم الوحشي عليك وعلى منزلك، وبالتالي فأكثر الناس يحذرونهم، ويجلسون داخل بيوتهم، وخاصةً عندما تكون ليالي فصلِ الشتاء مصحوبة بالبرد والمطر والرياح الشديدة.
في ليلةٍ من ليالي شهر كانون الباردة والجافةِ؛ كانت الرياحُ الشرقية الباردة تداهم جو القرية بعنفٍ وقوة، وفي مثل هذا الجو فإِن حركة الناس تقلُّ نسبيًّا، كانت الساعةُ بعد العاشرة مساءً عندما ابتدأ صفيرُ الشباب في كل القرية، وبشكل غير إرادي يُغلقُ كل أهل البلد أَبواب بيوتهم وبواباتها، ويمتنعون عن الخروج إِلَى أي مكانٍ كان، إلا إِذا اقترب الجنودُ الصهاينة من بيت أحدهم، حينها قد يضطر الشباب إِلَى الخروج من البيت للاحتماء في مكانٍ آخر، أو إِلَى مهاجمة الجنود بالحجارة أَو القناني الحارقة، في تلك الليلة الشتوية؛ سمع كل أَهلِ البلد الأَصوات المزعجة للمجنزرات الصهيونية، وهي تروحُ وتجئ في شوارع القرية بكل تحدٍّ واستفزاز، ارتعبت النساء، وكذلك الأطفال؛ خشية هجوم الجيش على منازلِهم، فإن أرادوا أن يداهموا بيتًا ما؛ فإنهم يكسرون الأبوابَ والخزائن والأثاث، ويصبون الكازَ على الطحين، ويخلطون الأَرز بالملح والسكر، ويطلقون الرصاصَ على خزانات المياه؛ كي يعطشَ الناس، كذلك كانوا يطلقونَ الرصاص على الأغنام والأَبقار والدواب والطيور، ويلجَؤون إِلَى التخريب المتعمد ضد أبناء شعبنا الصابر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بقلم الرائع أ/شوكت صفدي/////

"... نسيت وجعي، تعطر حزني بالحرية، نأيت عن أزمنة الشقاء، أزمنة الموت قهراً، وتوقفت معك لحظات الحلم، مبللين بأمطار تشرين ورعود تشرين ورياحه ووريقاته فوق قارعة الطريق القديمة، وعطره الخريفي.. وكانت جميعها تعزف موسيقا رقصتنا !.. جزء مني عاد إلى جسدي، وظل جزئي الآخر يرقص بين أطيافك.. سألتني أن نجعلها ألف عام قادمة.. وقلت، بل أريدها أن لا تنتهي خلود الزمن... لم تنقطع موسيقى الوجود لحظة، ولم ينقطع عزيف المطر والريح فوق النافذة، ونيران الموقد لم تخمد جواري... ومراهقتي التي هربت زمناً، ها هي تركض فوق الطرقات عائدة إلي، ترقص تحت المطر.. وشبابي المهاجر يستقبلني بشعر أشقر.. وطفلي الضائع في الغربة، يرجع من الفرار الى صدري، وإلى حضن وطن.. " يا عطر " . " عطر خريفي : من رواياتي "

بقلم الرائع أ/محمود عمر/////

«شرفة العمر الحزين» *********** عشت عمري كله شتاء وخريف وظللت أحلم كل يوم أن يأتي الربيع وطال بي الانتظار في شرفة العمر الحزين أتدثر بالأمل كلما اشتد بي الصقيع وكلما مر عام أنتظر البشارة تأتي في عام جديد يأتي فيه الربيع مرت الأعوام تباعاً عام خلف عام خلف عام والأيام تزداد قسوة والعمر شيء فظيع كم تمنيت أن يسرع الخطى ولكن الأمنيات عندي مستحيلة في زمن القساوة شنيع لم تشفع عنده طيبة القلب... ولا طيلة الصبر على الأحزان... ولا كثرة جروح الروح وآلام القلب وكأن الفرح علي منيع...!! حتى جاءني سهم الموت في وتين القلب من سند الحياة ممن ادخرته للأيام عوناً وليت الموت وقيع  لأذوق الموت مراراً  وطعم السكرات مرير...!!  أيا موتاً يأبى  يقربني  ألا لك من سبيل أسلكه...؟!  أو باباً أكون له قريع...؟!  لأترك دنيا نكرتني  فكرهت كل ما فيها  فكل ما فيها وضيع  فامدد يدك بكأس المنايا  فكم تجرعت أمر منه...!!  ولم أشتك يوماً  وكن معي خير صنيع...!!  محمود عمر

بقلم الرائع أ/عبد الرحمن القاضي/////

"غَزَليَّة" في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا نَدنوْ مِنْهُ ولا يأتيْنا نُهدِيْ عِطْرَ الحُبِّ إلَيْهِ ويُعَشِّمُنا ويُمَنّيْنا فَرْدٌ مِنْ عائِلَةِ الوَرْدِ يَنْضَحُ فُلّاً أو ياسَميْنا يَضْحَكُ إنْ قد كُنْتُ سَعيداً أو يَبْكِيَ إنْ صِرْتُ حَزيْنا ما في قَلبِيَ إلّا أنْتَ أمّا غَيْرُكَ لا يَعْنيْنا في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا... ! #عبدالرحمن_القاضي