فوزي نجاجرة من فلسطين
أصدقائي الطيبين أعضاء أسرة الصالون ،اليكم الحلقة رقم (١٩) من رواية ستشرق الشمس ثانية :
التمَّ شملُنا أَنا ومسعدة، فعشنا سعادة كبيرة، كانَ كل يومٍ بمثابة مكافَأةٍ لنا على صبرنا، باتت النعم تلفنا من كل النواحي، وَفي أَواخر عام أَلف وتسعمائة وسبعة وثمانين رُزقنا بأَول طفلة لنا، وأَصر جدها الحاج العراقي على أَن نسميها تحرير، على اسم خالتها الكبرى تحرير؛ أُخت أُمها، التي استشهدت في حربِ عام ١٩٦٧م، ما أَجمل شعور الأُبوة، فبعد مولد تحرير مباشرة؛ صار للحياة معانٍ أُخرى لم نكن نعرفُها، فقد تحولت علاقتُنا أَنا ومسعدة إِلَى حياةٍ أَجمل وأَحلى، وزادت لحمتُنا ببعضنا، وصار للحياة طعمٌ آخر، وبهجة متجددةٌ، فَإِضافةً إِلَى علاقة المحبة المقدسةِ التي تربطُنا؛ أُضيفَت لهذه العلاقة قيمةٌ أُخرى، وهيَ الاحترامُ المتبادل، وحرص كل واحدٍ منا على تقدير شريكِه أَكثر، وصار لعلاقتِنا ثمرةٌ مادية، توحد نجاحنا في هذه الحياة بعد كل ما واجهناه من مصاعب، فقد جَمعت ابنتُنا تحرير من جمال أُمها ملامح طبيعيةً أَجمل، ومن الذكاء ما كان ينعكس من عينيها وهي ابنة الثلاثة أَيام، حينَ تحدثتُ معها لأول مرةٍ؛ فتحت عينَيها، وفاجَأَتني وكأنها تعرفُني من قديم الزمان، فقد أشارتْ حركاتُ عينيها إلي بأنها طفلةٌ كبيرةٌ، وأنها ابنة خمسة أَعوامٍ، وليست ابنة ثلاثة أيام، ازدادت زياراتُ جدها وجدتها لنا، وكأنه لم يكن لدى الحاج ياسين إِلا هذه الحفيدة، والحقيقة المؤلمة أَن الحاج ياسين عبد القادر كان متعلقًا ببلده الأَصلية عراق المنشية، فكلما نظر إِلَى الطفلة تحرير كان يتكلمُ، ويتوسلُ إِلى ربِّ العالمين بأَن يرجعَهم إِلَى بلدهم، ويردهم إِليها في أَسرع وقتٍ، لم يترك الحاج ياسين مناسبةً أو فرصةً إلا تحدثَ فيها عن ذكرياته في قرية العراق المنشية، لقد بلغَ الحزنُ مني كلَّ مبلغٍ من أَحاديثِ عمي ياسين، وبتُّ أَحفظ كثيرًا من قصصه وحكاياتِه عن قريتهم.
بعد عامٍ من مولد ابنتنا تحرير؛ رُزقنا بولدٍ وبنتٍ توأَمين، أَصرَّ جدهما الحاج ياسين هذه المرة أَيضًا على تسميتهما، وقد اختار للولد اسم ثائر، وللبنتِ اسم أَمل.
توسعت الأَرزاقُ، وكبرت بقالتي، ونجحت، وثابرتُ على زراعة أَرضي، والاهتمام بها، خاصة العنب والتين والزيتون، ففي كل يومٍ بعد العصرِ؛ كنت أعملُ بجدٍّ في مزرعتي، وفي كل موسمٍ صرتُ أَجد ثمارًا وفيرةً أَبيعها.
كبرَ الأَولادُ، وصاروا جزءًا لا يتجزأُ من مجريات حياتنا، وقد صنعوا لنا عالمًا جديدًا، وصاروا يشاركوننا في كل صغيرةٍ وكبيرة، خاصةً البنت الكبرى تحرير، فكانت تساعد أُمها في تنظيف المنزل، وتتردد على البقالة لتنظفَها وترتبها، كان الكل مبهورًا بها وبنشاطها.
ذات يومٍ أرسلَ صهري الحاج ياسين عبد القادر في طلبِنا أَنا وابنته مسعدة، توجهنا بعد أَذان المغرب إِلَى بيتهم بِرفقةِ أَطفالِنا، فوجدنا الإِخوة والأَخوات مجتَمعين هناك، وبعد تناولِنا طعامَ العشاء معهم؛ قال الحاج ياسين:
- اسمعوا يا ولادي وبناتي، اليوم أنا جمعتكوا على شان أقسم بينكم ميراثي من أرضي الواقعة في قريتي عراق المنشية المهجرة؛ على شان لما نرجع إلها، كل واحد فيكوا يبقى عارف حصته فيها، فأنا أَملك فيها أربعمية دونم، وهذا هو الطابو التركي، واللي فيه تفاصيل ملكيتي هناك، فإنتوا يا ولادي وبناتي مجموعكوا شرعًا اثنين، ولد، وبنتين، وحسب شرع الله، فللذكر مثل حظ الأُنثيين، إنت يا موسى حصتك مائتين دونم، وأما إنت يا ربحية ويا مسعدة فلكل واحدة منكن مائة دونم.
ثم كتب وصيتَه، وأَعطى كل واحدٍ من أَولاده وصيةً خاصة به، بما فيها حصة زوجتي مسعدة، حملتُ الوصية وقرأتُها، وقلتُ في نفسي: "ما شاء الله، فَأنا وزوجتي مسعدة نملك في القرية المهجرة عراق المنشية مئة دونم، عقَّبتُ ممازحًا عمي:
- عمي ياسين، إنتوا مطولين لترجعوا هناك؟
- على وين يا سعيد؟
- على بلدكوا عراق المنشية، أنا صرت مستعجل، بدي آخذ حصتنا المائة دونم هناك، وأزرعها من كل أنواع شجر الصبر.
- وبعدين معك يا سعيد! هو إنت بتفكرني أنا المعوق على الرجعة! أنا لو تيجي إلي؛ هلكيت بأحمل حالي وبأظل رايح هناك على داري حافي عاري، ولما بأصل هناك مستعد أقعد على ترابها وأوكل منه، حينها بأقول أنا صرت ملك بحق وحقيقة.
سألت تحرير جدَّها:
- سيدي ياسين، لهلكيت داركوا موجودة هناك في العراق المنشية؟
- معلوم يا سيدي موجودة، وأَنا زرت البلد أكثر من عشر مرات بعد حرب السبعة وستين، والله روحي معلقة فيها، كل ما بقيت أروح على البلد أدخل جواة الدار، وأظل أبكي، وما أحب أطلع منها، لولا اللي معي يغصبوني أطلع منها وإلا ما بأرجع على هالمخيم.
- يعني إنت بتعرفها كويس؟
- يا سلام.. كيف ما بدي أعرف داري! دارنا، ودور عمامي ما حدا صايبهن، ظايلات زي ما هن، في قدام داري مطمورتين بقينا إنخزن فيهن محصول القمح والشعير والذرة، وفي قدامها شجرة جميز كبيرة، بقينا في فصول الربيع والصيف إنظل قاعدين تحت فَيّاتها، ونوكل ونشرب تحتها، الله الله على هذيك الأيام، ساق الله! كل أهل الحارة بقوا في الليل يلتموا في دارنا تحت الجميزة الكبيرة اللي في باب الدار، الصحاب والحباب، ونظل لوين وين وإحنا نتعلل ونسولف تحتها.
- بتفكر يا سيدي ياسين رايحين ترجعوا بحق وحقيقة لبلدكوا العراق المنشية في المستقبل القريب أو البعيد؟
- والله أنا رجل مؤمن بالله، وبتأمل من رب العالمين، إنو يفرجها علينا يا سيدي، ونقدر نحرر بلادنا من هالمستعمرين، وإن شاء الله طولة واحنا شعب واحد ومتوحدين، ومتمسكين بحقنا في الرجوع، وإنها فِلَسْطِين هاي أَرضنا ومش لهالأَجانب الأغراب، ومع مقاومتنا لهم، وهذا كله بإذن واحد أحد، رايحين إنحرر بلادنا ونرجع إلها، وأملنا كبير بعون الله، والبركة فيكوا يا سيدي إنتوا الأَجيال الجاية، أكيد رايحين تكونوا أَفهم من جيلنا.
حملت وثيقة الوصية بحصتنا التي تبلغُ مائة دونم في قرية العراق المنشية المهجرة، وعدنا إِلَى منزلنا، ووضعتها في إطارٍ، وعلقتُها على صدر الحائط.
تحرير طفلةٌ سمراء قمحية، عيناها واسعةٌ، تشبه أُمها كثيرًا، فعلَى الرغمِ من طفولتِها؛ إِلا أَنها جديةٌ، وتَفوقُ آلاف البنات، ولو قيَّضوني بمالِ الدنيا كلها؛ لما تنازلتُ عن ظِفرِها، فهي أغلى من الروح كونها ابنتي البكر، يُحبها كل أَبناء عائلتنا، ويتفاخرون بها، ويتغزلون بها، كثيرًا ما ساعدت أُمها وجدها وجدتها في حمل أَثقالٍ كبيرة، وتحملت التعب، وحملت همومَنا وهي ما زالت طفلةً غضة، وكثيرًا ما كانت تشتكينا لجدها الحاج ياسين عبد القادر، فيغضب ويثور، ويقف في صفها، سواءً كانت مخطئةً، أَم غير مخطئةٍ، ويقول:
- هذه تحرير أنا بأحبها أكثر من عنيا، هذه تحرير مش أي حدا، هذه تحرير إلي، وإنتوا إلكوا ثائر وأمل، فبترجاكوا لا تزعلوا تحرير أبدًا، واللي بدها ياه بصير.
في ليلةٍ من ليالي شهر تموز؛ كنا جالسين أَمام بيتنا تحت عريشِ الدوالي، وعندنا الحاج ياسين وزوجته الحاجة صفية، ووالدي محمود وأُمي معزوزة، بدأ صهري أَبو مسعدة يتحدث كعادته عن عراق المنشية، توترت أَعصابي، وصار دمي يفور بسببِ الملل من قصصه التي لا تنتهي عن ذكرياته عن بلده العراق المنشية، وفكرتُ أَن أُغادر السهرة، ولكني تحاملت على نفسي، وقررتُ أَن أَعترضَ حكاياته، ولكن بطريقةٍ لطيفةٍ، فسألتُه:
- عمي ياسين، بدي منك تحكي إلنا حكاية عن بلدكوا عراق المنشية، ما عمرك إحكيتها، إحنا احفظنا كل قصصك، إبتقدر تحكي إلنا قصة جديدة وأول مرة بتحكيلنا إياها؟
حك عمي ياسين رَأسَه، وأَمسكَ منخاره مستنجدًا به، وكأنه يطلبُ منه إِسعافه، لم يطل التفكير والصمت، فبعد أن ضحك ضحكتَه المعهودة سألنا:
- في منكوا حدا بعرف ليش بقى اسم رئيس جمهورية مصر الْعَرَبِيّة الشقيقة جمال عبد الناصر الله يرحمه أبو خالد؟ ليش بقوا ينادوله بأبو خالد؟ ليش سمى ابنه الكبير خالد؟ بدي حدا منكوا يقول إِذا بعرف! في حدا بيعرف ليش؟
ساد الصمت والهدوء على الحضرة، ولم يجبه أَحدٌ، فقال:
- أنا ما بأَعرف إحكيت إلكوا يا ولادي أو لا عن هذا الموضوع، بس بهمش إتحملوني، بدي أقولكم جواب سؤالي:
لما اتحاصرت عراق المنشية والفلوجة وعراق سويدان من اليهود، بقى في حامية من الجيش المصري والجيش السوداني يدافعوا عنها، بقيادة اللواء الأدميرال سيد محمود طه، ومعه ضباط آخرون من ضمنهم جمال عبد الناصر، استمر الحصار لِأَكثر من ستة أشهر، ورفض الضباط المسؤولون سيد محمود طه وجمال عبد الناصر الاستسلامَ أو الانسحاب، وكان معه ثلاثمية جندي، انقطعت طرق التموين والإمدادات عنهم، هلكيت شو اللي صار؟ اللي صار إنه تعاونوا المخاتير وأهل هذه القرى مع بعضهم، واتفقوا إنهم يجاهدوا مع هذيك الحامية، وعلى إنهم يمدوا الجيش الْعَرَبِيّ المصري بالمونة والسلاح، وبالملابس والفراش، وكمان يقاتلوا معهم، واستمروا في هذا العمل طولة وهم محاصرين.
في رجل من مخاتير عراق المنشية اسمه خالد الطيطي، هذا الرجل وطني ومجاهد من الطراز الأول، في عنده خبرة بكل تفاصيل أَرض البلاد، وطرقها السرية، وبحشوا أنفاق تحت الأرض، وقدروا يتواصلوا ما بين هذه القرى والجنود المجاهدين مع خارج منطقتهم، وفي أغلب الليالي كان المختار خالد الطيطي يتسلل إِلَى الجيش المصري، وينقل لهم كل ما يحتاجوه من ألبسة وأحذية ومؤنة وفرش وسلاح وعلاجات وغيرها، فصارت علاقة حميمية بين المختار خالد الطيطي والضباط الأَحرار والجنود المحاصرين من الجيش المصري والسوداني، وظلوا هؤلاء الجنود صامدين لحد ما تم التوقيع على الهدنة بين مصر والعدو الصهيوني، بحضور ممثلي هيئة الأمم المتحدة في اتفاقية جزيرة رودوس اليونانية، في الرابع والعشرين من شباط سنة ١٩٤٩م، وطلعوا من الحصار سالمين، ورجعوا إِلَى بلدهم مصر، هلكيت شو اللي صار؟
في شهر تموز سنة ١٩٥٢م؛ عمل جمال عبد الناصر هو ومجموعة من الضباط الأَحرار انقلاب على الملك فاروق ملك مصر والسودان، ونجحوا في تحويل مصر من مملكة إِلَى جمهورية، اتولى ضابط كبير اسمه محمد نجيب رئاسة الجمهورية في بداية الانقلاب، وبعد سنة تم تنحيته، وصار الضابط جمال عبد الناصر رئيس لجمهورية مصر الْعَرَبِيّة، هلكيت لما صار رئيس، راح المختار خالد الطيطي عليه إِلَى القاهرة علشان يبارك له، وتوجه إِلَى قصر الرئيس، وهناك استقبله الرئيس بنفسه على الباب، لما عرف إنه المختار خالد الطيطي برغب ايشوفه، وكافأه بأعلى وسام في جمهورية مصر، وهو وسام الشجاعة، وقال له: "يا مختار خالد الطيطي، تقديرًا لك ولشخصك الكريم، ولأَهل عراق المنشية، وتقديرًا لكل أهل فِلَسْطِين، أنا أسميت ابني البكر خالد، على اسمك يا مختار، فأَنا اليوم بقولوا لي أبو خالد، وهلكيت اعرفتوا ليش كان اسم رئيس جمهورية مصر السابق جمال عبد الناصر أبو خالد!
تعجبَ الكل من هذه المعلومة، ودُهشوا من تاريخ هؤلاء المجاهدين، واقتنعَ الجميعُ أَن اللاجئين الْفِلَسْطِينِيِّين كانوا شجعانًا، ولم يهاجروا مِن أَرضهم طواعيةً بسبب الخوف، أو أَنهم باعوا بلادهم فِلَسْطِين لليهود كما يدعي البعض من أَذنابِ الاستعمارِ والصهيونية، وإِنما صمدوا وقاوموا وتحدوا وجاهدوا، ولكن بطش العصابات الصهيونية كان كبيرًا وظالمًا؛ مما أَدى إِلَى مقتل الكثير من الأَبرياء جراء الحصار ونيران المدافع، ثم قررتُ بعدها أَن أَتأكدَ من صحةِ روايةِ صهري والد مسعدة، الحاج ياسين، ابن قرية العراق المنشية المهجرة، فسألت أُناسًا آخرين من أَبناء وأَحفاد المختار خالد الطيطي، ممن يعيشونَ في مخيمِ العروب، ومخيم الفوار للاجئين الْفِلَسْطِينِيِّين في منطقة الخليل، وجميعهم أكدوا لي صحةَ هذه المعلومة.
يتبع غدا ان شاء الله .
تعليقات
إرسال تعليق