.سنلتقي معا ياولدي.
_ مكوّمة داخل بعضها لتغلق منافذ البرد وتمنعه من التسرّب لعظامها،التي أصبحت هشّة ،بعد العمر الطويل، اتخذت سقيفة باب البنك مأوى لمبيتها حتى تحتميَ من الأمطار ،ورقدت أمام الباب.
_ كانت تجرّ البؤس،او لنقل ربّما البؤس هو الذي كان يجرّها غصبا عنها، ذاقت الهوان والذلّ ،وانتفخت عيناها بكاء ،لكن خفية،كانت تخجل أن يطّلع ولدها،أو الناس على ذلك،وهذه طبيعة النفس العزيزة المتعاليّة بكبريائها،والتي عاشت في دلال النفس التي لا تمدّ يدها.ولا تنتظر عطف الناس.
_ في تلك الليلة كان البرد على غير العادة،وفي ليلة ممطرة،والثلوج تساقطت حتى في المدينة،فملأت الأرصفة،وغطّت السيارات،أما الأشجار فبانت وكأنها ترتدي فساتين بيضاء للعرس ترقبا للزفاف،وأصبحت صورها لها معان ،حسب الطول، وتفرّع الأغصان،وحجم الجذع،فكانت شبيهة بديناصورات عملاقة ،تمدّ أذرعها وأجنحتها.
_ كل هذا وخالتي عائشة بدون طعام ولا شراب،ليت هذا فحسب ،لقد أهلكها البرد،وتحسّ بأنه اقتحم عظامها،ترتعش ولا تقوى على الحركة،جنبها على البلاط وكأنّه ثلاجة ،والجنب العلوي تعبث به الرياح وبرودة سيبريا، تبحث عن الدفء، أيام زمان،حينما كان زوجها حيّا،كانت السيّدة ،بمالها ولباسها،ودارها،وبجمالها التي كانت تتقن فنياته أمام المرآة،أيام دلالها،مع زوجها الطيّب،عاشا كالعصفورين،وتعاونا في بناء عشّهما.
_ أنجبا عليا، طفل واحد،تربّى في أحضانها،فكانت هي الأم والأب،وكانت تأخذه معها ،عند الجيران والناس،حينما كانت تنظّف السلالم ،وتمسح الأرض،وتغسل الصحون والملابس،مقابل دنانير معدودة، كان ظهرها يؤلمها من شدّة العمل، ومع ذلك تخفي الأمر حتى يفرح ولدها ،وتشتري بهما لباس علي وأكله، وعندما كبر،كبر مصروفه،في الكتب والكراريس، كانت لا تتركه يشعر أبدا بتفوق أصدقائه عليه،حتى لا يحسّ باليتم ،أو بعقدة ويعيش حياة كريمة، حتى تزوّج ووجد عملا مريحا.
_ لكن زوجة ابنها كانت تطردها ولا تتركها تمكث في البيت،وكانت تخفي على ولدها الأمر،وتخاف أن تخلق لولدها مشاكل وتكون هي السبب،في الفراق أو الطلاق، وكانت تمدحها وتثني عليها،وعلى علاقتها الطيّبة معها، وأنها تعتبرها كأمّها ، تكذب لاستمرار الودّ والإحسان وراحة ولدها علي .
_ كانت تتحدث مع نفسها ،وتعصر ذاكرتها،ومن حين لآخر ،تشتهي الطعام ،ولوكسرة،أومطلوعا، وكانت ترى زوجها يناديها ،عائشه ! انظري ،انا هنا تعالي للدفء أنا انتظرك .
_ وفي الصباح وعند موعد فتح البنك ،جاء الحارس ليفتح الباب فوجدها ،فناداها ،فلم تجب،فمد يده وحركها فوجدها يابسة مجمّدة، ويدها قابضة على صورة ابنها علي ،وكأنّها تقبّله وتودّعه لحبّها الشديد له،فهو رأس مالها عاشت من أجله وماتت من أجله،وقد انتقلت الروح لخالقها،نظر لوجهها وأغمض عينيها وقال: ربي يرحمك خالتي عائشة.
_ سمع علي الخبر ،فأسرع للمستشفى ،يجري، ويجري ولا يلتفت ،ولا ينظر لشيئ إلا لصورة أمّه،ولم ينتبه لسيارة قادمة ، قذفته كالكرة ،أحسّ بسائل ساخن يسيل على خدّيه ،أمّي أنا آت إليك ! انتظريني، جئتك بفستان الفرح ،وباللون الذي تحبينه، اللون البنفسجي يليق بك!
أمّي ! أمّي........!!
_ يقوم الجيران بالواجب وتدفن الأم مع ابنها في نفس المقبرة،يتعانقان في العالم الآخر ،بعد أن منعا من اللقاء في بيت الدفء.
عبد العزيز عميمر. كاتب وقاص من الجزائر.
تعليقات
إرسال تعليق