رجل صغير
القسم الأول
تحول عبد الله من مرحلة التعليم الابتدائي إلى المرحلة الإعدادية، شكل تحولا جذريا في الطفل الذي كانه، تحولا شمل سياق الأحداث وأمكنتها، وكانت أول نقطة للتحول الإمتحان الموحد الذي أجري بعيدا عن مدرسته الفرعية بالمركز بخميس أنجرة..يتذكر يوم الامتحان فيتبسم عندما يجول في خاطره أنه أول يوم اكتشف فيه الأيس كريم فقضمه بأسنانه وسط ضحكات الزملاء..
نجح عبد الله وتغير مكان الدراسة، وفضاء الحياة من البادية بطبيعتها وشساعتها إلى المدينة باسمنتها وضيقها، تغيرت الروائح من عبق الأزهار والخزامى والزعتر إلى أدخنة السيارات والمعامل، وتغيرت الأصداء المرافقة من سمفونية الطبيعة إلى ضجيج المدينة، لكن التحول الأصعب تحملا كان الانتقال من ألفة الأسرة إلى الغربة، من تجمع الوالدين والإخوة إلى وحدة وسط الآخرين..
قضى ليلته الأولى بعيدا عنهم من غير نوم، يسمع من حين لآخر عربدة سكير أو صوت سيارة بينما اعتاد أن يسمع ليلا نباح الكلاب وصوت الطبيعة، بينما قضت أمه تلك الليلة باكية، إنها أول ليلة يقضيها بكرها بعيدا عن المنزل..
كانت تطوان التي انتقل اليها عبد الله بداية التسعينات حكاية أخرى، فمعلوم أنها مدينة حضارية بامتياز فضلا عن أنها مدينة العلم والعلماء والشعر والشعراء..
لاحقا مع النضج وتقدم العمر سيكتشف عبد الله أن القاسم المشترك بين تطوان وجهنم هو عدد الأبواب، لكنه عدد فقط يعبر عن التباين لا التقارب، والتنافر لا التشابه، فبمقدار ما تفتح أبواب جهنم على الجحيم، تفتح أبواب تطوان على الجمال والحضارة والتاريخ والكبرياء والعزة..
لكنه الآن في سنواته الأولى هناك يهمه تلمس الطريق وتذكره كي لا يتوه، والاحتراس من الغرباء على طول مشوار الطريق بين (ديور الباليدوس) حيث استقر بداية، وبين ثانوية القاضي عياض حيث يدرس، مرورا بباب النوادر، دون اغفال شارع الجزائر حيث محطة الحافلات التي كان يركبها ذهابا وإيابا من وإلى قريته...
كانت الأيام الأولى في الاعدادية عصيبة ليس لبعده عن الأهل فقط بل لصعوبة الاندماج مع الزملاء (المدينيين)، إذ كل شيء كان مختلفا: العادات والأفكار والألعاب واللهجة، هذه الأخيرة لطالما عرضته للسخرية من طرف زملائه، بحكم اختلاف لهجته القروية الشديد الوضوح..
يتذكر كيف كان خاله يمرنه: " لا تقل كذا وقل كذا.." لكن هيهات الطبع يغلب التطبع، فما هي إلا جمل قليلة حتى تنفلت منه كلمة قروية غريبة عن الزملاء، فينفجرون ضحكا، وهم يطالبونه ساخرين:
" شنو قلتي..!! عاود.. عاود"
يتبع..
محمد أكزناي
تعليقات
إرسال تعليق