اقتباس لقصة قصيرة من الأدب الساخر ، من روايتي الأخيرة والتي صدرت قبل اسبوعين من دار دجلة في الأردن أتمنى ان تنال اعجابكم أعزائي القراء :
يقول الطفل الصغير يتيم الأب والأم محمود ، والذي تولى تربيته هو وأخته صفية جده الشيخ محمد المسن :
في حياة كل شخص منا نقطة لا عودة لها، وفي حالات نادرة، توجد نقطة يمكنك التقدم منها، وحين تصل إلى تلك النقطة، كل ما عليك فعله هو أن تتقبل الحقيقة، وهكذا نظل أحياءً. بشكل عام كانت ذكرياتي مأساوية، ففي كثيرٍ من الأحيان عندما كنت أتذكر بعض المواقف أصاب بالضحك؛ ولكن ليس من السعادة، إنه الضحك الذي يؤاخي البكاء، فبعض البكاء يكون مرًا للحد الذي ينقلب فيه إلى الضحك، كثيرٌ من الضحك يكون مرًا وحادًا وجارحًا كنصل سكين، الإنسان لا يعدم الطرق؛ للتعبير عن ألمه.
في يوم من الأيام وفي حصة اللغة العربية عن النحو والصرف، وبينما كان الأستاذ غزال يدير ظهره لنا نحن التلاميذ، كان مستغرقًا ومنهمكًا في الشرح والدرس والتفسير على اللوح ، والصمت كان يفرض نفسه ويسيطر على كل الغرفة والتلاميذ، فجأة انتابتني نوبة ضحك، فصرت أضحك، وأقهقه بشكل لا إرادي، فسمعني الأستاذ غزال واستدار على عجل؛ وإذ به يلمحني فضبطني متلبسًا بالجرم الكبير والمشهود الذي لا يشك أحدٌ بثبوته . فقد جن جنونه، وقال لي:
_ "ويحك... ويحك... أيها الشقي ، يا غلام قف وتعالَ إليَّ هنا أمامي، وقف أمام زملائك التلاميذ بكل كياسة وأدب."
وقفت على رجليَّ وهي ترتجف من شدة الخوف، فالأستاذ غزال كان يستعمل أساليب عقابية قاسية مع التلاميذ بخلاف أغلب المدرسين، فوجهه دائما متكدر ونادرًا ما يضحك حيث كنت أخاله أنه خلق فاقدا لخاصية الضحك التي أنعم الله بها على البشر . خرجت من المقعد أمشي نحوه ودمي يتجمد في عروقي ، ثم وقفت أمام زملائي وجهًا لوجه. قال لي :
_ "أجبني من فضلك أيها التافه ، ماذا قال العرب عن الضحك في سالف الدهر والأوان ؟"
_ "لا أعرف يا أستاذ غزال ماذا قالوا ."
ثم استدرك الأستاذ غزال، قالوا :
"الضحك من غير سبب من قلة الأدب." ما رأيك أيها الشقي في هذا المثل؟ فهذا القول موجه إليك أنت بالتحديد؛ لأنك قليل الأدب وقليل الحياء.
الأن قل لي بربك يا صغيري:
"ما السبب الحقيقي الذي غرك لتضحك وتقهقه بصوت ناشز أثناء شرحي للدرس؟ هل جننت ؟ فقد هجست بذلك حرمة النحو والصرف والشروحات المضنية التي كنت أقوم بها . ويحك أيها الشقي، فأنت جلبت إلى نفسك محنة كبيرة لا يعلم نتائجها إلا الله ، أجبني بسرعة :
بربك ماذا سأقول للمبتدأ والخبر؟ ماذا سأقول للفعل ولفاعله ؟
أجبني بربك ماذا سأفعل مع إن وأن ومع كان وأخواتهن ومع كل هذه العصابة ؟؟؟ هااااااه ؟ أجب، لا أطال الله في عمرك أيها الغلام الشقي، وقصره عاجلًا وليس آجلًا."
يا أخونا، إن صدقتنا القول، ووافيتنا بالسبب الحقيقي الذي أضحكك، أضحكتنا معك ونجوت ، وإن تذاكيت وأبيت وكذبت وأنكرت فقد هلكت، وحينئذ سأقسم عليك بالفلق ( الفلق أن يقوم تلميذين برفع أرجل التلميذ المعاقب الى أعلى ، ثم يقوم المعلم بضربه بالعصا على أسفل رجليه الحافيتين ).
_ "حاضر... حاضر يا أستاذ غزال سأقول... سأقول الحقيقة حالًا، أرجوك فقط لا تضربني فلقة."
-في كل ليلة يخلع جدي محمد طربوشه لينام، ويقوم بتعليقه على مسمار مثبت في الحائط فوق رأسه على ارتفاع مترين، وفي ليلة أمس بعد أن نام جدي، واستغرق في نومه، كذلك أنا وأختي صفية، استيقظت بعد منتصف الليل على ثورانه، وصراخه، وشتائمه، فاستغربت وانزعجت كثيرًا، ثم سألته:
_ "ما الخبر يا جدي؟ ما سبب تهيجك ؟ هل من مشكلة معك؟"
_ "نعم يوجد مشكلة، بينما أنا نائم؛ وإذ بشخص سافل يحمل طربوشي من على المسمار، ويضربني به في وجهي."
_ "من ضربك يا سيدي محمد بطربوشك ؟ لا يوجد أحد غيرنا في البيت، خوفتنا كثيرًا، أنت تحلم."
تدريجيا هدأ جدي حتى عاد وغط في نومه ثانية، ونمنا معه نحن أيضًا.
بعد أكثر من ساعة تقريبًا، ومرة أخرى ثار صوته وصياحه وغضبه من جديد؛ بل وأكثر من المرة السابقة، فقمت مفزوعًا، ووقفت أمامه، كان يتوجع، ويقول:
_ "آاااااااااه... يا راسي... آااااااه يا وجهي، الله يلعنك ليوم الدين، رأيتما للمرة الثانية، بعدما نمت، قام وحمل طربوشي هالملعون، وضربني به في رأسي ووجهي، لعنة الله عليك يا سافل يا منحط ياااااااااا...."
لم يبقِ جدي شتيمة إلا واستخدمها.
ههههههههههه، فقبل قليل خطرت في بالي صورته تلك، ودون إرادة مني وجدت نفسي أضحك دون قصد عليه وعلى طربوشه ، وهذا فقط هو سبب ضحكي يا أستاذي القدير.
_ "لكن لم تقل لنا يا جميييييييل ، على من كان يسب جدك الشيخ محمد قصر الله عمره عاجلًا ؟ من كان المقصود بثورته المبالغ فيها تلك؟"
_ "كان جدي محمد يسب ويوبخ في إبليس، فهو كان متأكدًا أن إبليس هو من يشاكسه ويحمل الطربوش من على المسمار ، ويضربه به على وجهه كلما استغرق في نومه."
_ "هههههههههه."
ضحك الأستاذ غزال ، وقهقه كذلك التلاميذ، ثم قال:
_ هههههههه " اذن كان الفاعل ابليس والمفعول به هو جدك . يا غلام قل الحقيقة ، من كان يشاكس جدك ويضربه بطربوشه ، أهو حقا ابليس كان، أم أنت ؟؟؟؟ هههههههه ."
ثم بعدها اقترب الأستاذ غزال مني ومال نحوي، ثم وضع فمه في أذني، وقال لي هامسًا:
_"اسمع يا فتى، ابقِ هذا الكلام سرًا بيني وبينك ، فإن أردت أن أعفيك من العقاب ، عليك تدبر أمرك بعد عصر هذا اليوم ، وأن تقوم بإحضار ماكينة الحلاقة ، وتأتيني بها صاغرًا إلى داري؛ لتقص بها شعري وإلا...، هاه... هاااااااه... اتفقنا يا بطل؟"
- "هههههههههههههه... والآن يا أولادي عفونا عن زميلكم محمود، فإلى مكاننننننننننك عد ، واحد ، أثنان ، واحد......."
تعليقات
إرسال تعليق