أصدقائي الرائعين اليكم الحلقة رقم (١٨) من رواية أمضي أم أعود :
كانت أم الوفا راضية تمام الرضى عن عملها في المقهى الجامعي، وعن نجاحها الملموس في كسب رزقها من المقهى ، بدأت نفسيتها بالاطمئنان والهدوء، فهي تتصور شاطئ البحر وكيف أحواله، يضيق في مكان، يتسع في مكان أخر، فهي تدرك أن هذا هو حال الدنيا، تعطي بيد وتأخذ باليد الثانية أو بالعكس . عندما تنشغل بتحقيق هدف جيد ، أو عمل استثنائي، تتحرر كل أفكارك من ما يقيدها، ويرتقي عقلك فوق كل الحدود، تتسع مداركك في كل الأنحاء، تكتشف انك في عالم جديد تماما، جميل ، باهر، يشع طاقة ايجابية، تنشط قدراتك ومواهبك وطاقاتك الكامنة لتبعث فيك وفي غيرك الحياة المتجددة، تعرف أنك شخص أكبر مما كنت تظن. ولكن الغريب في أم الوفا، أنها لا تملك رفاهية انتقاء ذكرياتها، هناك ما ترغب بجد في الاحتفاظ به لكنها تنساه، وهناك ما تستميت بقوة كي تنساه، ولكنه يختار التمركز في وسط ذاكرتها . تستذكر أنها كانت سعيدة، تقول عندما نجرب السعادة نجد صعوبة في الشعور بها، فقط عندما تذهب السعادة نستذكرها ونعرف كم كنا سعداء، وغالبا ما نتعجب من ذلك !
باستمرار عندما تحضر اقبال فانها تثير دافعية ام الوفا وتحفزها للحديث والنقاش، خاصة اذا تصادف وجود الدكتورة سمية .فحضورهن سوية ، لا بد وأن يغير جو المقهى ويثريه بالنقاش الماتع، والذي يكون محوره أم الوفا، فهي وبمجرد دخول الطالبة اقبال أو سمية، تنفعل تستثار، تشعر انهن بعض أسرتها، لذلك يسيطر عليها الارتياح والمرح، ينشرح صدرها، تعلو وجهها البهجة، تضحك تتكلم، مباشرة تجلس معهن مهما طالت الجلسة، بشكل عام، فهي تحب نقاشاتهن وتنجذب بشدة لها، قالت الدكتورة سمية:
_ مساكين معلمين المدارس، كثرت اضراباتهم ولا أحد يكثرث لهم، فتكاليف الحياة غالية جدا، الأسعار مرتفعة، ومع هذا فكل شهر عليهم خصم نسبة لا تقل عن عشرين بالمية من راتبهم، الله يساعدهم، أغلبهم متورطين بقروض للبنوك، سواء قروض اسكان، او سيارات، فبعد اقتطاع البنك للدفعة المستحقة ، ماذا يتبقى للموظف ؟ وهناك من يرغب بالزواج وهناك من يدرس أبنائه في الجامعات، كان الله في عونهم حياتهم كلها جحيم في جحيم للأسف العظيم .
_ قالت ام الوفا، أعتقد يا دكتورة أن المشكلة متفرعة، يعني لماذا الغالبية العظمى من خريجي الجامعات يكونوا معلمين ؟ لماذا لا يكون لوزارة التخطيط بالشراكة مع وزارة التعليم العالي، وبالتنسيق مع الجامعات، لماذا لا يكون لهم دورا في توجيه الطلاب المقبولين في الجامعات، لدراسة تخصصات متنوعة ومطلوبة ؟ لماذا يقبلون نسبة كبيرة في تخصصات التعليم؟ لماذا لا يتم ارشاد الطلاب من بداية قبولهم في الجامعات، ليلتفتوا الى تخصصات غير التعليم؟ ففي هذه السنة، تم الاعلان عن المنافسة لألف وخمسمائة وظيفة للتعليم ، وطبعا اكثر من ألف وظيفة من هذا العدد، تكون محجوزة لحبايب وخلان ذوي النفوذ، انتم تفهمون لماذا، بسبب نزاهتنا وأخلاقنا الزائدة عن الحد، اذا بقي منها شيئ، ما علينا لا أريد أن أدخل لموضوع الفساد، على كل أتعرفون كم خريج تقدم للمنافسة ؟ خمسون ألف خريج تقدموا للوظيفة !!! ماذا يعني هذا ؟؟؟ هناك عمليا جيش تعداده خمسون الفا من العاطلين عن العمل من خريجي المهن التعليمية ، لا يوجد لهم فرص في العمل أبدا، هل يعقل هذا الأمر؟؟؟ مأساة كبيرة بكل المقاييس والمفاهيم ، والجامعات تتحمل مسؤولية هذا الأمر .
_ ههههههههه ، الحمد لله رب العالمين، فأنا أدرس الصحافة ، قالت اقبال .
قالت الطالبة الهام، وأنا أيضا تخصص صحافة .
تأثر الجميع بهذه التراجيديا ، قاموا غادروا المقهى . بقيت الفتاة اقبال تقف امام طاولة أم الوفا تتحدث معها ، قالت:
_ خالتي ام الوفا، عندما أنظر الى عينيك بعمق، أرى حزن كبير يملأهما، أنت بشكل عام تحاولي مجاملة الزبائن ، لكنك حقيقة تعاني هموما كبيرة تثقل صدرك ، هكذا يتهيأ لي، ربما أكون مخطئة ، هل انا صادقة في هذا أم مخطئة ؟ ما رأيك يا خالة ؟ هل أستطيع مساعدتك بشيئ ما؟ أرجوك ، يا ريت تصارحيني بأسباب حزنك وهمك؟
بقيت المرأة صامتة تحدق في وجه الفتاة لأكثر من خمسة دقائق دون حراك ، تحاول التمترس خلف الصمت القاتل، أو تتصل بما يعذب روحها في الغيب وفي السر. ببطء مثير، غطت وجهها بكلتا يديها ، انحدرت دموعها على خدودها ، ومنها صارت تنقط على صدرها ، نشيج موجع صامت انطلق من حنجرتها ، مدت الفتاة يديها الى رأس المرأة، طوقتها ، حضنتها بكلتا يديها، ثم قبلت رأسها ووجهها العديد من القبل........... غادرت اقبال المرأة على عجل، تمسح عينيها وتبكي الموقف . وصلت حديقة الجامعة، جلست مشغولة بالتفكير في كنه تلك المرأة، أنها امرأة محيرة، امرأة منحدرة من عمق المجهول، كل شيئ حولها يحوطه الغموض. ألم الروح أشد ايلاما من ألم الجسد، أحست بعذاب روحها العميق . شعرت أن أحزانها المدفونة تهاجمها، تشابكت تنهيداتها وامتزجت بأنفاسها. تتعذب وتعض على معاناتها بنواجذ الصبر، مسكينة خالتي أم الوفا ،برغم مظهرها الذي يوحي بالقوة، الا انها في حقيقتها تحاول التغلب على قلقها وعلى التيه الذي يسكنها .ما أشد حاجتنا الى ان نفهم بعضنا فهما يكون أساسه الانسانية الحقيقية ، بعيدا عن المصالح والتملق والنفاق. ولكن..........!!!
هدأت أم الوفا هدوء الرماد الذي يدفن في جوفه كومة جمر ، مخدرة بتأثير صورة تلك الفتاة التي تشبه الفراشة التي تحوم حولها، أو كنجم حاصر نوره مملكة الظلام المقفرة في باطن دواخلها . شعرها الكستنائي يلمع كخيوط الشمس . كيف انسابت هذه الفتاة الى دواخلي ببطء ، وحركت الأحزان المدفونة في صدري منذ سنين عديدة ؟ انها فتاة مختلفة، يشع من عينيها سحر يأسر بين ثناياه روحا تملؤها براءة ونقاوة مطلقة . انسانة مغايرة بدماغ متوثب وقلب مختلف .
يتبع في الحلقة رقم (١٩) الاسبوع القادم ان شاء الله.
تعليقات
إرسال تعليق