الحلقة رقم ( ٢ ) من رواية ستشرق الشمس ثانية
يُحكى أَنه في قديمِ الزمانِ؛ كان هناك سبعة إخوة تزوَّجوا في ليلةٍ واحدة، وبعد منتصف الليلِ؛ نزلَتْ عرائسُهم إِلَى العين لِإِحضارِ الماءِ كي يستحِموا، ولما وصلنَ إِلَى القاعة؛ ظهرَ لهن رصدُ القاعة، وبدل أن يملأْنَ القِرَبَ بالماءِ؛ سَحَبَهُنَّ الرصدُ إِلَى أَسفل، حيث يعيشُ في بركة ماء كبيرةٍ، ولما لمْ يرجعْن إِلَى بيوتهن؛ بحث العرسانُ عن العرائِس، ولم يجدوا سوى بعض آثارهنَّ وهُن غارقاتٌ في أسفل عينِ الماء، والذي قام بإِغراقِهن الرصدُ الملعون، ومن يومِها أُطلِقَ على هذه العين اسمُ جورة العرايس.
بيوتُ قريتنا متلاصقة، كمثلِ التِصاقِ خَلايا نحلِها المصنعةِ من أَديمنا الأدميِّ نفسِهِ؛ من الماءِ والطين، وكذلك خوابينا (خزانات حبوب القمح والعدس والذرة والقطين)، وكذلك طوابين خبزِنا، وكثيرٌ من الأَواني الفخارِيَّة، التي كانَت تساعدُنا في عيشِنا البسيطِ الهانئ، كانت الحياةُ بسيطةً جدًّا، الكل يشعرُ بأَن أَهلَ القريةِ جميعَهم منسجمون مع بعضِهم بعضًا، وكأنهم أُسرةٌ واحدة، فالكل يعرف الكل، ونعرف أسماءَ العرسان والحوامل، وأسماء المواليد الجدد ذكورًا وإِناثًا، وأسماءَ مَن يموتون، وأسماء الأرامل والمغتربين، ومَن يتطَهر مِن الذكورِ، ومَن ينتظرُ الطهور، ومن يحجُّ، ومن يمرضُ، ومن يزني، ومن يسرقُ، ومن يكذب، نفرحُ جميعنا لفرح بعضِنا البعض، فعندما يتزوج أي شابٍّ وفتاة؛ تدورُ الأَفراحُ والليالي الملاحُ سبعةَ أَيامٍ بلياليها، وعندما يبني شخصٌ ما بيتًا جديدًا؛ فكل أَهل القرية يتعاونون، ويتشاركون شراكةً بدائيةً في إِنجاز بناء البيت له، وعندما يتوفى إِنسان قريتنا؛ يحزنُ الكل، ويَنْغمُّ ويَنْهَمُّ، ويتم إِطعامُ أهلِ الفقيد في أَول ثلاثة أيامٍ من رحيلِه، ويعم الحدادُ في كل القريةِ أَربعين يومًا وليلةً كاملةً مكملةً غير منقوصةٍ، توزعُ فيها كل نساء القرية الزلابية (الخبز المقلي في زيت زيتون) كل يوم خميسٍ، وذلك بإِطعام الأحياء؛ كي يستمرَّ وصولُ أجرِ الطعام للميتِ طوال أيام أربعينيته الأُولى من رحلتِه الأبدية الجديدةِ في دار الآخرة، وانتقاله من مشوار الحياة إِلَى عالمِ المجهول (الموت)، فيعمّ الحزنُ والألمُ كل أهل القريةِ؛ دلالةً على مكانةِ الفقيدِ، واحترامًا وتَطييب خاطرٍ للأَحياء الطيبين من أَهلِه، وفي أَثناء فترةِ الحداد؛ لا يُسمح لأي كانَ في القرية أَن يُقيم عرسًا، أَو يمارسَ أَي نوعٍ من أَنواع الفرحِ أَو طقوسِه، حتى تنقضي فترةُ الأربعين يومًا، وهي مدة حداد الناس، ثم تعودُ الحياةُ إِلَى مجراها ثانية.
لم نكن مثاليين في عاداتِنا وقيمنا كبشرٍ، إِلا أَننا كنا نعيشُ في أماٍن واطمئنان وسلام حقيقي، لم نكن نعرفُ الخوف أَو القلق َمن المعلومِ، أو مِن المجهول، ولم نعرفْ يومًا الكره والبغضاءَ، لم نحملْ يومًا الشرَّ والحقدَ لِأَي إنسانٍ كان إِلا ما ندر، فكنا نعتقد أَنه كلما توسعَتْ دائرةُ معارفنا للناس وللبشرية؛ كلما ازدادت سعادتُنا، وازددنا غنى وثراءً نفسيًّا واجتماعيًّا، إِلا أَن الزمنَ أبى إِلا أَن يُعلِّمنا دروسًا قاسيةً مختلفةً عن تلك المَفاهيمِ الْعَرَبِيّة الأصيلة.
جاءَتْ لنا هذه الحربُ بِزُوارٍ مِمَّن لفظتهُم المجتمعاتُ الغربية والْأُورُوبِّيّة، من أَكثر البشر تخلفًا وعنصريةً، ومن أَكثر الناس انحطاطًا في القيمِ والأخلاقِ والإِنسانية، إنهم بشرٌ من إِنتاج أُوروبا البربرية، التي طاردَت اليهودَ في بلدانِهم الأصلية، وفرضَت عليهم الهجرةَ لسرقة أَرضِ شعب فِلَسْطِين من أهلِها، وتشريدِهم منها، حتى يضمَنوا تفريغَ بلدانِهم من كل اليهودِ المنبوذين في ثقافاتِهم الْأُورُوبِّيّة الاسْتِعْمَارِيّة، فهم عمليًّا طرَدوهم؛ ليُقيموا كيانًا غاصبًا اسمُه إِسرائيل، ولتقوم هذه الدولةُ على حساب جماجم أَطفالِ ونساء وشيوخِ وشبابِ أَهلِ فِلَسْطِين العرب، وآهاتهم وخوفهم وجوعهم، هؤلاء هم ضيوفنا الجدد، المُستعمرون الْأُورُوبِّيُّون العُنصريون الجُدد.
فجأةً، ومع قدومِ هؤلاء الغُرباء؛ توقَّفَ قطارُ حياتِنا هذا بفعل فاعلٍ؛ اسمُه الاحتلالُ الغاصبُ الصهيونيُّ التَّخريبيّ، الغولُ والقرصانُ السفاح، وبفعلِ الإِنسان الأَحمر الأَشقر الأَبيض المُختَلّ إنسانيًّا، والذي لا ترويه إِلا دماءُ الأَطفالِ والشيوخِ والنساء الأَبرياء في الأَوطانِ الفقيرة، والسيطرةُ على كل أَصقاعِ الكوكبِ؛ طمعًا في امتلاك أَراضي الناسِ وخيراتِهم وثرواتِهم الشخصيةِ والعمومية؛ من أَجل توفيرِ العيشِ الرغيدِ لشعوبِهم الشريرة، فمبدأهم هو (أَنا وفقط أَنا، لي أَنا فقط ولا لِأَحد غيري)، إنها الأَنانيةُ والطمعُ وحبُّ التملكِ والاستحواذ على ثرواتِ أوطانِ غيرهم، من دون وجهِ حقٍّ في ذلكَ، ومن دون خَجل.
توقَّفَ قطارُ حياتنا مع بدء يومِ الخامس من حزيران لعام ١٩٦٧م، وتدهورَت حياتنا وأَحوالنا، ولم ترجع مثلما كانت من قبلُ أبدًا، إِنه البلاءُ والابتلاءُ الذي عمَّ وطمَّ على البلادِ والعباد، التخريبُ الصهيوني الاستيطاني، الذي يقومُ على أَساسِ السيطرة على أَرضِ الشعب الْفِلَسْطِينِيّ، بالمذابح والنارِ والدم، وطردِه من أَرضِه بالباطلِ والزورِ والبُهتان، إِلَى مخيماتِ اللجوءِ القريبة والبعيدة، والاستيلاء على أَرضِ الْفِلَسْطِينِيّين، وتوطين مهاجرين أَجانبَ من دولِهم بدلًا منهم، سواءً من أُوروبا أَو الولايات المتحدة الأَمريكية، أَو من بلادِ روسيا، يَجلبونَهم عبر البحارِ في سفنٍ، وعبرَ السماء في طائراتٍ، تحت ذرائع وأَسبابٍ فاسدةٍ وعفنةٍ وقبيحةٍ، فإِن تجربةَ إِقامة كيانٍ صهيونيٍّ استعماري استيطاني اسمُه إِسرائيل لِأَسبابٍ دينيةٍ وعنصريةٍ على أَرض الشَّعب الْفِلَسْطِينِيّ؛ ما هي إِلا استنساخٌ للنماذجِ التي قامت بها أوروبا البربريةُ الاسْتِعْمَارِيّةُ في القرونِ الوسطى والحديثة القريبة.
لقد استَولَى الاستعمار الْأُورُوبِّيُّ على أَرض الاندلس وحضارتها الْعَرَبِيّة، والتي امتدَّت لأكثر من ثمانمائة عامٍ وأكثر، حيث قامَت بتقتيل أَهلِها العربِ، وتهجيرِهم، وفرضِ التنصير على مَن تبقَّى منهم، وإِجبارهم على تغييرِ أَسمائِهم من الأَسماء الْعَرَبِيّةِ الْإِسْلامِيّة، إِلَى الأَسماءِ اللاتينية، وقد أَقامت أُوروبا دولةَ إِسبانيا على أَرض العربِ الأَندلسِيين، وعلى مصادرةِ ممتلكاتِهم العقاريةِ، وتراثهم العلميِّ والثقافي والحَضاري، ولم يكتفوا بذلك؛ فاستعمروا الجزائرَ، وشمال أَفريقيا وجنوبها، والهند.
ثم قاموا باحتلالِ واستعمارِ أَمريكا الشَّماليةِ والجنوبيةِ بالكامِل، من أَهلِها وشعوبِها الأَصليِّين؛ وهم الهنود الحمر، حيث ذبحوهم وأَقاموا على أَرضِهم دولتَيّ الولايات المتحدة الأَمريكية، ودولة كندا الاسْتِعْمَارِيّتَين للْأُورُوبِّيّين، كذلك فعلوا مع شعوبِ أَمريكا الجنوبية، ومع شعبِ استراليا ونيوزلندا، وغيرها من البلدان الأُخرى، إِنه الاستعمارُ الذي يهدفُ إِلَى سرقةِ الأَوطانِ، وطرد وقتل أَصحابها الشرعيين، ونهب كنوزِها وثرواتها لصالحِ الْأُورُوبِّيّين البيض ورفاهيتهم.
في مساء اليومِ الخامسِ من نشوب الحرب، وبينما كُنا نلهو ونلعبُ أَمام بابِ مغارة أُم حديدة،
يتبع في الحلقة ( ٣ ) يوم الخميس القادم ان شاء الله
تعليقات
إرسال تعليق