التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بقلم الرائع أ/فوزي نجاجرة/////


حلقة رقم (٤) من رواية ستشرق الشمس ثانية
خالي بدر الدين كان في الخامسة والعشرين عامًا؛ برتبةِ ضابطٍ في سلاحِ المدفعيةِ في الجيشِ الْأُرْدُني عشيةَ قيامِ الحرب، وكانت مدفعياتُهم ومن معها متمركزةً على جبالِ الخليل الغربيةِ، باتجاه السهل الداخليِّ والسهل الساحلي الْفِلَسْطِينِيّ للبحرِ المتوسط، وكان هو ورفاقُه يرابطون بأسلحتِهم على سفوح جبالِ قريةِ بيت كاحل، التي تُشرِفُ على قريةِ بيت جبريل، وكدنا، وعجور، والدوايمة، وعراق المنشية، وعلى الفالوجة، وعلى مدينة اسدود، ومدينة عسقلان، في الأَراضي التي احتُلت عام ١٩٤٨م، وأسفل قريةِ بيت كاحل يقعُ وادي الكف الغويط، والذي يوصلُ قرى أذنا، وترقومية، وبيت أولا، ونوبا، وخراس، وصوريف، والجبعة، وبيت عوا؛ إِلَى مدينةِ الخليل، وتُعَدُّ جميعُ هذه القرى حدوديةً، نسبةً إِلَى الخطِّ الأخضر، الذي حددَه مبعوثونَ من هيئة الأُممِ المتحدةِ الدولية، والذي يفصلُ بين الأرض السهليةِ الخضراء، والأَرضِ الجبليةِ الجرداء، وهو ما يعرف بخطِّ الهدنة الفاصلِ بين الأَراضي التي احتُلت عامَ ثمانيةٍ وأَربعين وتسع مائةٍ وألف من جنوب الضفةِ الغربيةِ نحو شمالها.
كان خالي بدر الدين إِنسانًا جريئًا شجاعًا مُهابًا، لا يهابُ الردى، طويلَ القامة، ذا شاربٍ أَحمر معقوفٍ من الطرفين، عريضَ الكتفين، صدره مرتفع واسع، أَسمر سمرة القمر، وهو متزوجٌ من محبوبة بنت حسن الشريف، ولهُ ولدٌ وابنتان، أَكبرُهُم اسمُه عايد، وعمرُه خمسُ سنوات، وفداء ابنةُ الأَربع سنوات، وهدى ابنةُ الثلاث سنوات.
منذ اليوم الأولِ للحربِ وحتى انتهائها؛ لم تَرِد أَيُّ معلوماتٍ عن خالي بدر الدين، ولم يكن أَحد يعرفُ إِذا كان على قيدِ الحياة أَم ميتًا، ولا أَحد يعلمُ هل هو في الأَرضِ أَم في السَّماء! هل هو جريحُ حربٍ؟ أَم أَسيرٌ أَسرَهُ اليَهود؟ حدَثَت كلُّ هذه المبهماتِ في الوقتِ الذي عاد فيه إِلَى القريةِ كثيرٌ من أبنائِها الجنودِ بعد انتهاء الحرب، أَو وردت لِأَهاليهم معلوماتٌ عنهُم، فالكلُّ في قريةِ صابرين عرف مصيرَ أقاربه وأَحبائِه؛ إِلا أُسرتنا.
انتهت أَيامُ الحربِ، ومضى أُسبوعٌ وأُسبوعان، وشهرٌ وشهران وأربعَة، ولم تعرف أُسرَتي أَي أَخبارٍ عن خالي بَدر الدين، وطوال هذه الفترةِ هجَرنا المأكلَ والمَشربَ، كُنا صِغارًا وكبارًا مفتَقدينَ لهذا الابنِ العزيز البار، والإِنسان الصالحِ المسكين الغالي على الأُسرةِ بأكملها، ولِأَنني كنتُ في السابعة من عمري؛ لم أَكن أَهتمُّ كثيرًا لهذا الأَمر، لكنَّ انشغالَ أُمي عنَّا، وحزنَها وأَلمَها ودموعَها التي لم تتوقف؛ كان هو ما يُنبِّهُ أَفكاري، وكان هو نفسُه سيِّدَ الموقِف، فعندما أَجوعُ؛ أَذهب لأُمي لتطعمني؛ فَأَجدها منشغلةً في النواح، وحينَ أَطلبُ منها أن تطعمني؛ تجيبني: "عندما يرجع خالك بدر الدين من الحرب"، فَأَغضبُ وأَسبُّ وأَلعنُ الحرب، وأَلعنُ اليهودَ، ومَن تَسَببَ في مجيئِهم إِلينا.

منذ صغرِنا، وقبل دخولِنا المَدرسة؛ أَنا والطفلة مسعدة، ابنة الحاج العراقي جارنا؛ كُنا نلعبُ سويةً، فنحن في العمرِ نفسِهِ، وعندما بدأنا أول يوم في مدرستنا؛ فرحنا كثيرًا أَنا ومسعدة؛ لأننا في الصف نفسِهِ، ودائما ما كانت أُمها تسألُني كلما رأتني:
- يا ترى يا سعيد؛ شوفت مسعدة؟
وكلما رآنا أَحدٌ من أَهلنا نلعبُ معًا يقولُ:
- ما شاء الله، ما أَجمل سعيد ومسعدة!
حتى إِنه في كثيرٍ من الأَيامِ كنتُ أسمعُ أُمي معزوزة تقولُ لعمتي صفية:
- ديري بالك يا خيتي صفية، هذه مسعدة إِن شاء الله لسعيد لما يكبروا، إوعوا تغلطوا فيها لحدا.
- ومالو يا خيتي يا أم سعيد، إِن شاء الله ربنا يحفظهم ويكبرهم ويسعدهم ويكتبهم لبعض، وتبقى مسعدة من بخت سعيد، ونفرح كلنا في ولادهم يا رب يا كريم، إِحنا بدنا إنلاقي أحسن منكوا نسايب، ولا نلاقي أَحسن من هالبطل يا أم سعيد! شو رأيك يا سعيد يا بنيي؟ أنت موافق تجوز مسعدة يا حبيبي؟
- أنا موافق أَتجوز مسعدة يا عمتي، بس قبل ما أوافق قولي لي: على مين مونتها؟
- شو يعني مونتها؟
- يعني أَكلها على مين؟ علي ولا عليكوا؟ أَنا يا عمتي صفية بأقدرش أطعميها، بس أَقدر أطعمي حالي، إذا عليكوا طعمتها أَنا موافق.
- ههههههههههه، مونتها ومونتك علي.. علي.. عليا يا بخيل بس إنت وافق.
- خلص فش مشكلة، أَنا موافق أتجوز مسعدة، إمتى بدكوا إتجوزوها؟
- هههههههه.
ضحكت والدتي وأم مسعدة، وأنا لا أعرفُ لماذا يضحكن، ولكني أخيرًا شعرتُ أَنهنَّ يضحكْنَ مني، فانتابَتني حالةٌ من الخجلِ والضيق.
أَذكر أَنه عندما كُنا صغارًا، حينَ بلغنا الرابعةَ من أَعمارِنا أَنا ومسعدة، وفي ليلةٍ من ذات الليالي؛ ذهبنا أَنا وأُمي وأَبي؛ لنسهرَ ونتعللَ عند دارِ جارِنا عمي الحاج ياسين العراقي، وقد مكثنا في سهرتِنا عندهم حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، فداهمَني نعاسٌ شَديدٌ، لم أَستطع معهُ الاستمرارَ في السهر، فَأَصرت عَمتي صفية أَن أَنامَ عندهم تلك الليلة، فنمتُ بجانب مسعدة على الفِراشِ نفسِه، استغرقتُ في النوم ليلتَها، واستفقتُ على صوت أَذان الفجرِ من مسجدِ حارتنا، فوجدتُ نفسي غارقًا في مياهٍ ساخنةٍ، وكل بدني وملابسي مبللةٌ، انزعجتُ كثيرًا، وعرفتُ أَن مسعدة قد بلَّلَتني من أَرجُلي حتى رأسي، وعندما بزغَت الشمسُ؛ تسللتُ على عجلٍ هاربًا من منزلِ عمي ياسين العراقي إِلَى منزلنا جريًا، وهناك اشتكيتُ وبكيتُ لأمي بكاءً حارًّا لِأَكثر من ساعةٍ، فضحكت أُمي وقالت:
- الله يجعل مسعدة من حظك ونصيبك يا سعيد، إِلك من صباحية ربنا بتصيح، وعلى شو قاعد بتحم في بالك! شو صارلك؟ هو إنت بدك تموت من شختها! أنو اللي بصح له، ينام جنب ملاك مثل مسعدة؟
بعد أذان العصر، وعندما التقت والدتي وأُم مسعدة أَمام طابونٍ للخبيز، حيث كُنَّ يذهَبْنَ إِلَى الطابونِ نفسِه؛ أَخبرتْها أُمي عَما فعلتْهُ مسعدة بي في الليلة الفائتة.
- هههههههه، ولا يهمك يا عمتي، المرة الجاية بس اتناموا جنب بعض، لازم إنت اللي تعملها عليها، خلص متزعلش حالك، حقك علينا، اسكت اسكت، أَول دعبوب (رغيف صغير) سخن بطلع من الطابون إِلك، بس اصبر علي شويا، وهيذ بنبقى متصالحين إِحنا وياكوا يا دار أَبو سعيد، إمليح هيذ يا سعيد! ولا مش مليح؟
لم يعجبني تعليقُ أُم مسعدَة على ما فعلته مسعدة بي، وواصلتُ البكاءَ والصياح، وعندما أَخرجَت الحاجةُ صفية الدعبوب من الطابون؛ تلقفتُهُ بيدَيَّ، وسكَت فمي نهائيًّا عن الصياح، فبدل البكاء انشغلَ فمي بلقم الرغيفِ الصغيرِ ومضغِه بمتعةٍ كبيرةٍ؛ لينتهي حزني مما فعلتْهُ مسعدة، ولكني لم أَنسَ ما فعلتهُ بي في تلك الليلةِ ما حييت.
                 *******       عشنا في صغرِنا أَنا ومسعدة أوقاتًا هنيئةً وممتعةً، فقد استمدَّينا سعادتَنا تلك من فرحنا بزرقة سمائِنا وصفائِها، ومن تلألؤ نجومِها الزاهرة في عتمة ليالي قريتِنا صابرين، ومن خضرة أَرضِ بلدِنا، ونضارةِ أَعشابِها، في جنانِ عيونِها ونبعاتِها، ومن وقفاتِنا الطوال فوق الصخورِ البارزة في سفوح جبالنا الشاهقةِ، وخاصةً طور الزعفران، وطور بانياس، وطور أَبو تمام، ومن جلساتِنا الجميلةِ على الأَعشابِ الناعمةِ، تحت ظلالِ الأَشجارِ الكبيرةِ الوارفة، في جنانِ نبعة عين البلدِ، وعين فارس، وعين الفقية، وعين أَبو زيد، وعين أَبو كليبة، وعين وادي سجمة، وعين عثمان، وعين وادي الغويط، ومن سعادتِنا بسماع أَناشيد الحياةِ، وموسيقى ناياتِ الرعاةِ، وأَغانيهم الشَّعبية، ومن ضَوضاء أَغنامِهم في غدوِّها ورواحِها، وبسماعِ أورادِ دراويشِها وأذكارهم وأَناشيدِهم في زاويتِهم ليلةً بعد ليلة، وكذلك في ليالي الموالدِ النبوية، وليلةِ الإِسراءِ والمعراج، أَو في طهور الأَولاد، أَو في العقيقة، وغيرها من تقديم القرابين فداءً عن المالِ والعيالِ؛ تقربًا إِلَى الله عزَّ وجلَّ، حيث كانت هذه الطقوسُ جزءًا لا يتجزأُ من ثقافةِ أَهل قريتِنا، فكل هذه الأَشياء السالفَة الذكرِ؛ أَسهَمت وفعَّلت وشكَّلت كلَّ عناصرِ الحبِّ الطاهرِ الشريف، الذي كان ينمو ويكبرُ يومًا بعد يومٍ، وينير قلوبَنا أَنا ومسعدة فيسعِدنا.
   بعدَ أَربعة أَشهرٍ من انتهاء حربِ الستة أَيام لعام ١٩٦٧م، وبعد لهيبِ الفقدِ، وحرقةِ ومرارة الوجعِ، الذي سببَه غموضُ مصير خالي بدر الدين لأُسرتي، وردنا خبرٌ من جنديٍّ عادَ من الحربِ، ويُدعى حسني، من قريةِ حوسان المجاورة؛ بأنَّ خالي بدر الدين حيٌّ يُرزق، وهو يرقدُ في إِحدى مستشفياتِ العاصمةِ الْأُرْدُنية عمان، على إِثر إِصابتِه بشظيةِ صاروخٍ أَسقطته عليهم طائرةٌ صهيونيةٌ في طريقِ أَريحا، في أَثناء انسحابِهم إِلَى الضفةِ الشرقيةِ لنهرِ الْأُرْدُن؛ تماشيًا مع قرارِ الانسحابِ لجميعِ القواتِ المسلحةِ، الموجودة في الضفةِ الغربية، وقد أصدَرَ هذا القرارَ القائدُ الأَعلى للقواتِ المُسلحةِ الْأُرْدُنية الملك حسين بن طلال؛ من أجل الدفاعِ عن العاصمةِ عمان؛ كي لا تسقطَ هي الأُخرى مثل مدينةِ القدس الشريف.
  أُخِذَ خالي بعد سقوطِه جريحًا، إِلَى مشفى في عمان فاقدًا للوعي، واستمرَّ في غيبوبته أربعة أَشهر كاملة، ولما استفاق في شهر تشرين الأَول من العام ١٩٦٧م؛ أَرسلَ خبرًا إِلَى أُسرتنا في قرية صابرين المحتلة، والواقعة إِلَى الجنوبِ الغربيِّ من مدينةِ بيت لحم، في الضفة الغربيةِ، عمَّت الفرحة أَسرتنا وكل أَهالي قريتِنا؛ لثبوتِ نجاةِ خالي بدر الدين من الموتِ في الحرب، ولِمعرفةِ أَنه قد شُفِي من جراحه، على الفورِ سافرت زوجتُه محبوبة، وابنه عايد، وابنتاه فداء وهدى إِلَى عمان، والتحقوا به، وسكنوا في مخيمِ شنلر الْفِلَسْطِينِيّ للاجِئين الْفِلَسْطِينِيِّين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بقلم الرائع أ/شوكت صفدي/////

"... نسيت وجعي، تعطر حزني بالحرية، نأيت عن أزمنة الشقاء، أزمنة الموت قهراً، وتوقفت معك لحظات الحلم، مبللين بأمطار تشرين ورعود تشرين ورياحه ووريقاته فوق قارعة الطريق القديمة، وعطره الخريفي.. وكانت جميعها تعزف موسيقا رقصتنا !.. جزء مني عاد إلى جسدي، وظل جزئي الآخر يرقص بين أطيافك.. سألتني أن نجعلها ألف عام قادمة.. وقلت، بل أريدها أن لا تنتهي خلود الزمن... لم تنقطع موسيقى الوجود لحظة، ولم ينقطع عزيف المطر والريح فوق النافذة، ونيران الموقد لم تخمد جواري... ومراهقتي التي هربت زمناً، ها هي تركض فوق الطرقات عائدة إلي، ترقص تحت المطر.. وشبابي المهاجر يستقبلني بشعر أشقر.. وطفلي الضائع في الغربة، يرجع من الفرار الى صدري، وإلى حضن وطن.. " يا عطر " . " عطر خريفي : من رواياتي "

بقلم الرائع أ/محمود عمر/////

«شرفة العمر الحزين» *********** عشت عمري كله شتاء وخريف وظللت أحلم كل يوم أن يأتي الربيع وطال بي الانتظار في شرفة العمر الحزين أتدثر بالأمل كلما اشتد بي الصقيع وكلما مر عام أنتظر البشارة تأتي في عام جديد يأتي فيه الربيع مرت الأعوام تباعاً عام خلف عام خلف عام والأيام تزداد قسوة والعمر شيء فظيع كم تمنيت أن يسرع الخطى ولكن الأمنيات عندي مستحيلة في زمن القساوة شنيع لم تشفع عنده طيبة القلب... ولا طيلة الصبر على الأحزان... ولا كثرة جروح الروح وآلام القلب وكأن الفرح علي منيع...!! حتى جاءني سهم الموت في وتين القلب من سند الحياة ممن ادخرته للأيام عوناً وليت الموت وقيع  لأذوق الموت مراراً  وطعم السكرات مرير...!!  أيا موتاً يأبى  يقربني  ألا لك من سبيل أسلكه...؟!  أو باباً أكون له قريع...؟!  لأترك دنيا نكرتني  فكرهت كل ما فيها  فكل ما فيها وضيع  فامدد يدك بكأس المنايا  فكم تجرعت أمر منه...!!  ولم أشتك يوماً  وكن معي خير صنيع...!!  محمود عمر

بقلم الرائع أ/عبد الرحمن القاضي/////

"غَزَليَّة" في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا نَدنوْ مِنْهُ ولا يأتيْنا نُهدِيْ عِطْرَ الحُبِّ إلَيْهِ ويُعَشِّمُنا ويُمَنّيْنا فَرْدٌ مِنْ عائِلَةِ الوَرْدِ يَنْضَحُ فُلّاً أو ياسَميْنا يَضْحَكُ إنْ قد كُنْتُ سَعيداً أو يَبْكِيَ إنْ صِرْتُ حَزيْنا ما في قَلبِيَ إلّا أنْتَ أمّا غَيْرُكَ لا يَعْنيْنا في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا... ! #عبدالرحمن_القاضي