الحلقة رقم (٣) من رواية ستشرق الشمس ثانية :
في مساء اليومِ الخامسِ من نشوب الحرب، وبينما كُنا نلهو ونلعبُ أَمام بابِ مغارة أُم حديدة، الواقعة في جوفِ صخورِ جبالِ صبيحة العالية، والتي تبعدُ عن القريةِ أَكثرَ من أَلف مترٍ، حيث اختبَأَت فيها عائلتي، وكثيرٌ من عوائل البلد؛ فجأةً سمعنا صوتَ انفجارٍ قريب منا، هزَّ الأَرض بمن عليها، وكذلك فزعَت الطيورُ في سمائِها، فركضنا هارِبينَ مسرعينَ؛ لنختبئَ في إِحدى زوايا المغارة، التي كانَت تأوي أَكثر من ثلاثمائة إِنسانٍ من قريتنا صابرين، كانوا قد لجأوا إِليها ليحتَموا فيها، وبعد نصفِ ساعةٍ دخلت المغارة امرأةٌ مسرعةٌ حافيةَ القدمين، بين الثلاثين والأربعين من عمرها، تحمل طفلًا رضيعًا على صدرِها، مرعوبةً مفزوعةً، وجهُها أبيض شاحبٌ، شعرُ رأسِها منفوش، وكل خليةٍ من بدنها تهتز وترتجف خوفًا كَآلةِ خياطة، وبعد أن أَلقَمَت فمَ رضيعها حلمةَ ثديها قالت:
- طيارات العدوّ اليهودي، ضربَت أَكثر من ثلاثة قزازين (صواريخ) وسط حارتنا؛ حارة الياسمين، سمعت إنها تحرير بنت اللاجئ الحاج ياسين العراقي، باقية تطبخ وتستوي في طبختهم على النار جواة دارهم، قام أجا قيزان (صاروخ) منهن وسط دارهم، وانفجر فيها، يا ويلي عليها، والله سمعت إنها اتقطمت واتفرمت زي ما اتفرم اللحم تفريم، لموها ولقطوا لحمها يا حرام، مش عارف في بطانية أو لحاف.
- بس هي اللي استشهدت؟ ولا في كمان ناس استشهدوا من القيزان (الصاروخ)؟
سأل أَحدُ الشيوخ.
- باقي ما في الدار من عيلة دار العراقي كلها إلا تحرير اللي استشهدت، واستشهد معها كمان أَولاد جيرانهم الأخوة التوم، الشاب مجاهد صابر وأخوه محمد، أعمارهم سبع طعشر سنة، هذول باقين ناصبين استنات (رشاشات) فوق سطوح دارهم، وكل ما يمرقن (تمر) الطيارات من سما البلد، يطخوا عليهن، وكمان استشهد الضابط العسكري الْأُرْدُني، اسمه رمضان المراجلة، وزوجته وضحة، وجميع أَطفاله الخمسة، متعب وهزاع وشدهان ووطفة وخريشان، هذا الضابط اللي مسؤول عن الدفاع عن قريتنا صابرين، وعن حاميتها العسكرية، كلهم العشرة استشهدوا مع الصبية تحرير، كمان ناس كثير انجرحوا، وبعضهم جروحهم خطيرة وبعضهم بسيطة، يا حرام، مجزرة حقيقية، وما في طرق مفتوحة، ولا عيادة، ولا حدا فاضي لحدا، كل اللي انجرحوا وإصاباتهم صعبة، رايحين يموتوا، الله أَكبر على اليهود، وعلى الإنجليز، وعلى الأمريكان المجرمين، الله أكبر عليهم، هذول وحوش وأَعداء الانسانية كلها.
في ليلة اليوم السادس من نشوبِ الحربِ؛ توقَّف كلُّ شيءٍ، وانتهت الحربُ بوقوع كل أَراضي فِلَسْطِين تحتَ الاحتلالِ الصهيوني، كانت الخسائرُ كارثيةً، فكثيرٌ من الناسِ استُشهدوا، وتشكلت ظاهرةُ النازحين؛ أَي الناس الذين نزَحوا وتركوا أَهاليهم وبيوتَهم وأَراضيهم، ورحلوا إِلَى الضفةِ الشرقية من نهر الْأُرْدُن، حيثُ المملكةُ الْأُرْدُنية، وبقوا فيها نتيجةً لنكسة العرب لعام ١٩٦٧م، لكن هناك كثيرًا من الناسِ صَمدوا وصبروا، ولم يتزحزحوا إِلَى أَيِّ مكانٍ، وثبتوا في البلادِ، فأصبحَ لدينا ظاهرتان اجتماعيتان مُميزتان مُتَرَتِّبتَان علَى خسارةِ العربِ والْفِلَسْطِينِيِّين في مواجهاتهم للعدوانِ الصهيوني التخريبي؛ أَولًا ظاهرةُ اللاجئين الذين هُجِّروا من مدنِهم وقراهم وأراضِيهم عام النكبة ١٩٤٨م قهرًا وعنوةً، حيث خسروا كلَّ ممتلكاتِهم للصهاينةِ، وأصبحوا معدَمين، لا يملكونَ أَبسط مقومات الحياة، ويعيشونَ على كرت التَّموينِ من وكالةِ الغوث الدولية، والظاهرة الثانية هي ظاهرةُ النازحين الْفِلَسْطِينِيِّين والسوريين، الذين هُجِّروا من مُدنهم وقراهم نتيجةَ عدوانِ الصهاينة عام ١٩٦٧م، وتركوا كل ما يملكون من عقاراتٍ وأملاكٍ، وأَصبحوا معدَمينَ، يعيشونَ على المساعدات والإِعانات من الآخَرينَ.
داهمَنا حزنٌ عميقٌ على الشهداءِ والجرحى، وخاصةً ابنة جارنا اللاجئ ابن العراق المنشية الشابة تحرير، كانت تحرير في التاسعة عشرة من عمرِها، بشرتُها بَيضَاء، جمالُها وبهاؤُها يداعبن الحياة، طويلةُ القامة، مياسة القد، كستنائية العينين، لا شيءَ يشوبُ صفاءَها، روحها متحررةٌ ثائرة متمردةٌ ومنطلقة عاليًا، مرفوعة الرأس، شامخَة شُموخَ الشمسِ في ضُحاها، لم يعرف الناسُ لها شبيهةً في البلاد ولا في العباد، فالكل يحبُّها، ويتفاءلُ ويُسعد برؤيتِها عندما تمرُّ من أَزقة حارات القرية، الكثيرونَ يحاولون تجاذبَ الحديث معها، وها هي تحرير الصبيةُ الفتيَّةُ تستشهدُ، لقد تركَتْ حزنًا عميقًا وجرحًا غائرًا في كبدِ البلد، وأَصابت همًّا وانشغالًا لدى كل أهلِ القرية، خاصةً أُسرتها؛ المكونة من والدِها الحاج ياسين، ووالدتِها الحاجة صفية، وأَخيها موسى، وأُختها ربحية، وأُختِها مسعدة ابنة السبعة أَعوام، كانَ والدُها هوَ أَكثر مَن هزَّه استشهادُها، فقد أَخذ هذا الحزنُ منهُ كلَّ مَأخَذٍ، فغيَّر نفسيتَه واهتماماتِه، وزادَه قهرًا على قهرٍ، ففي بداية عام ١٩٤٩م؛ أَجبرَه العدوُّ الصهيوني على هجرِ داره وأَرضه وقريتِه العراق المنشية، وطردَه منها بالقوة، هو وجميع أَهلِ قريتهِ، ولم يكتفِ بذلك، بل لحقَه اليوم، إِلَى حيثُ التجأ ليعيشَ في قرية صابرين، على بُعدٍ لا يقل عن سبعين كيلو مترًا عن قريتِه الأَصليةِ؛ ليهدمَ بيته الثاني الذي يأويه، ويقتلَ ابنته الشابةَ تحرير، ويشردَه للمرة الثانية في بلده الثانيةِ صابرين، بعد هذا الحدثِ ازدادَ الرجلُ غضبًا على غضبهِ السابق، وحسرةً على حسرتهِ؛ مما زاد من إِصرارهِ على العودةِ إِلَى بلدِه الأَصليةِ عراق المنشية، بكل طريقةٍ ممكنةٍ أو غير ممكنةٍ، ومنذ يومِها؛ كثرت أَحاديثه عن ذكرياتِه فيها، وعن حسرته ووجعِه لاستشهاد ابنتِه الشابة المزيونة تحرير.
لا يبعدُ بيتُ الحاج ياسين عن بيتنا أكثرَ من خمسين مترًا، فكثيرًا ما كُنا نتزاور، ودائمًا نستمعُ لِأحاديثِه المؤلمةِ عن قريته الأصلية عراق المنشية، فهي محورُ أحاديثِه وحبه وعشقِه، لم تفارق يومًا ما ذاكرتَه وعقلَه، ولم يتوقف عن حلمِه بالعودة اليها آجلًا أم عاجلًا، كان دائمَ الانشغالِ والتساؤُلِ حول الرجوعِ والتحرير! ودائمًا يحكي لنا عن قريتِه، وعن أشهر منطقةٍ فيها؛ مثل (تل العريني، ومقام الشيخ أبو سل)، وكانَ يخبرُنا عن بياراتِ برتقاله، وعن سهولِ قمحه وشعيره، وعن الذرةِ، وتفيئِه تحت أشجارِ البيارات وأشجار الجميز، يحدثُنا عن مزارعِ العنب، وعن أشجار الصبر، وتربية المواشي من أغنامٍ وأبقار، وعن النحل والعسل، وكانَ أكثر ما يشدُّني روايتُه عن حصارِ العصابات الصهيونية لمنطقتِهم عام ١٩٤٨م، حيث تجاورُهم مدينةُ عسقلان، وقرية الفلوجة، وقرية عراق سويدان، وبيت جبريل، وكانت توجدُ في هذه المنطقةِ حاميةٌ عسكريةٌ مصريةٌ سودانية، بقيادة الضابطِ النوبي طه وجمال عبد الناصر.
لقد نتج عن خسارتنِا لكامل أَرضنا الحرة فِلَسْطِين بداياتٌ جديدةٌ، أسست لمرحلةٍ رهيبةٍ من الذل والهوانِ والعذابِ والويلاتِ لشعبِنا الْفِلَسْطِينِيّ جماعةً وأَفرادًا؛ من جَرّاء الأَعمالِ العدوانية والإِجرامية التي مارستها عليهِ أَدواتُ الاحتلالِ الصهيونيِّ العنصريِّ الاستيطاني، فمنذ بدءِ العدوان والحربِ؛ لم تتوقف دموعُ جميع أَفراد أُسرَتي عن السيلان الحار، حتى كادت عيونُ جدتي لِأُمي؛ فاطمة، وأمي معزوزة، أَن تجفَّ من حسرة البكاء والنواح على خالي بدر الدين، وكذلك زوجته محبوبة.
خالي ابنُ الخامسة والعشرين عامًا؛ كان برتبةِ ضابطٍ في سلاحِ المدفعيةِ في الجيشِ الْأُرْدُني عشيةَ قيامِ الحرب، وكانت مدفعياتُهم ومن معها متمركزةً على جبالِ الخليل الغربيةِ، باتجاه السهل الداخليِّ والسهل الساحلي الْفِلَسْطِينِيّ للبحرِ المتوسط، وكان هو ورفاقُه يرابطون بأسلحتِهم على سفوح جبالِ قريةِ بيت كاحل، التي تُشرِفُ على قريةِ بيت جبريل، وكدنا، وعجور، والدوايمة، وعراق المنشية، وعلى الفالوجة، وعلى مدينة اسدود، ومدينة عسقلان، في الأَراضي التي احتُلت عام ١٩٤٨م، وأسفل قريةِ بيت كاحل يقعُ وادي الكف الغويط، والذي يوصلُ قرى أذنا، وترقومية، وبيت أولا، ونوبا، وخراس، وصوريف، والجبعة، وبيت عوا؛ إِلَى مدينةِ الخليل، وتُعَدُّ جميعُ هذه القرى حدوديةً، نسبةً إِلَى الخطِّ الأخضر، الذي حددَه مبعوثونَ من هيئة الأُممِ المتحدةِ الدولية، والذي يفصلُ بين الأرض السهليةِ الخضراء، والأَرضِ الجبليةِ الجرداء، وهو ما يعرف بخطِّ الهدنة الفاصلِ بين الأَراضي التي احتُلت عامَ ثمانيةٍ وأَربعين وتسع مائةٍ وألف من جنوب الضفةِ الغربيةِ نحو شمالها.
كان خالي بدر الدين إِنسانًا جريئًا شجاعًا مُهابًا، لا يهابُ الردى، طويلَ القامة، ذا شاربٍ أَحمر معقوفٍ من الطرفين، عريضَ الكتفين، صدره مرتفع واسع، أَسمر سمرة القمر، وهو متزوجٌ من محبوبة بنت حسن الشريف، ولهُ ولدٌ وابنتان، أَكبرُهُم اسمُه عايد، وعمرُه خمسُ سنوات، وفداء ابنةُ الأَربع سنوات، وهدى ابنةُ الثلاث سنوات.
منذ اليوم الأولِ للحربِ وحتى انتهائها؛ لم تَرِد أَيُّ معلوماتٍ عن خالي بدر الدين، ولم يكن أَحد يعرفُ إِذا كان على قيدِ الحياة أَم ميتًا، ولا أَحد يعلمُ هل هو في الأَرضِ أَم في السَّماء! هل هو جريحُ حربٍ؟ أَم أَسيرٌ أَسرَهُ اليَهود؟
تعليقات
إرسال تعليق