الحلقة رقم (١) من رواية ستشرق الشمس ثانية :
مع بداياتِ شهر حزيران لعام ١٩٦٧م؛ أَنهيتُ الصف الثاني الابتدائي، وفي صباح اليوم الرابع منه، تمام الساعةِ الثامنة صباحًا؛ علا صوتٌ مزعجٌ وقذِرٌ يملأ الأَرض والفضاء رعبًا، وينشر الخوفَ الزؤامَ في الآفاقِ، إِنها طائراتُ العدوِّ الحربيةِ الصهيونيَّة، تمر فوق سماءِ قريتِنا صابرين؛ المحاذيةِ لخطِّ الهدنة لعام ١٩٤٨م، مُتوجهةً لتلقي حمولتَها من الصواريخ، والنيران، والحمم الملتهبة، فوق معسكراتِ الكتيبة السادسة للجيش الْأُرْدُني، فوق جبالنا المرتفعةِ جنوب القريةِ؛ جبل عين الفقية، وجبل شويحة، وعين أبو زيد، وظهر المساطيح، وبلوطة اليرزة.
في الحقبة الزمنيةِ التي امتدَّت من عامِ أَلفٍ وتسعمائة وثمانية وأَربعين ميلادية، حتى انتهاء هذه الحربِ في العاشر من شهرِ حزيران لعام أَلفٍ وتسعمائة وسبعةٍ وستين ميلادية؛ كانت كلُّ الضفةِ الغربيةِ تقعُ تحت سيادةِ المملكةِ الْأُرْدُنيةِ الهاشمية، في زمن ملِكِها الحسين بن طلال بن عبد الله.
عندما سمعتُ تلك الأَصوات المرعبةَ للطائراتِ انبطحتُ أَرضًا، وأَغلقتُ أُذنَيَّ بِأَصابعي حذرَ الموت! وبقي هذا المشهدُ يتكرر طوالَ النهار والليل، وطيلة ستة أَيامٍ كاملة، وهي كل المدةِ التي استغرقتها حربُ عام ١٩٦٧م، والتي سُمِّيَت حرب الأَيامِ الستة، التي أَطلقَ عليها العربُ عامَ النكسة، ففيها هُزِمت كلُّ الجيوشِ العسكرية الْعَرَبِيّة، وهُزم كل وزراءِ حربها، وجنرالاتهم المثقلَة صدورهم وأَكتافهم بنياشِين الذلِّ والعار، لما فرطوا فيه من الغالي والنفيسِ من أَرضِ العروبةِ، وسقوطِ عروسِها الطاهرة؛ مدينة القدس الحزينة المغدورة، أَمام الجيشِ الغاصب، جيشِ العدو الصهيوني، كذلك فقد نتجَ عن هزيمةِ الجيوش الْعَرَبِيّة احتلالُ كاملِ أَراضي فِلَسْطِين التاريخية، وانسحابُ الْأُرْدُن عن السيادَةِ على الضفة الغربية إِلَى الضفة الشرقيةِ من نهر الْأُرْدُن، وانسحاب الجيشِ المصري من قطاعِ غزة، كذلك احتلالُ هضبة الجولان السوريَّة، واحتلالُ سيناء، والأَراضي المَصرية، وسيطرةُ ووقوف الجيشِ الغاصب الصهيوني على الضفةِ الشرقيةِ لقناةِ السويس المصريَّة؛ مما أدى إِلَى إِغلاق هذا الممرِّ الملاحي الحيوي أَمام الملاحةِ العالميةِ، ولمدةٍ كبيرة، كل هذا حدث في ستة أيامٍ، وخَمسة ليالٍ فَقَط لا غير.
كُنَّا أنا وأجيالي من الأطفالِ الْفِلَسْطِينِيّين في عمرِ الزهور؛ عندما انحرفَ القطارُ البخاريُّ الذي نركبه عن سكتِه الطبيعية، كنا نسافرُ به برفقةِ أَهلِ قريتِنا الوادِعةِ (صابرين)، بِإِنسِها وجنِّها، وبإِرثِها التاريخيِّ العَريق، وبتميُّزِ تضاريسِها وطبيعتِها، وبطيورِها وحيواناتِها الأَليفةِ والبريةِ، وبمياهِ ينابيعِها الصافيَة، وسنابلِ حقولِها وجنانِها، وسلالِ خيراتِها الوفيرة.
لم نكن نعرفُ في الحياةِ حينئذ إِلا الأمنَ والأمانَ، والحياةَ البسيطةَ الوادِعة، واللعبَ واللهوَ والسرورَ والرفاهية، وتتابُعَ أَمواج الحبّ غير المُتناهيةِ وشواطئِها، والضَّحك على كلِّ شيءٍ مفرح، ومتعة كلِّ إِشراقةِ شمسٍ ومغيبِها، فتمنحنا كثيرًا من الفرصِ؛ كهدوءِ البالِ، واللمةِ الأُسَريةِ الدافئة الحميميَّةِ، والاستمتاعِ بصوتِ الأذان، وصوتِ المنشدين الذاكرين للأورادِ عندَ كلِّ فجرٍ، وبعد صلاة كل مغربٍ، والتمتع برؤية النجومِ التي لا تُعد ولا تُحصى، والتعرفِ إِليها في الليالي الصيفيةِ المعتمةِ؛ فهذا الميزانُ، وتلك الزهرةُ، وذاك نجمُ سُهَيل، وهذه نجمةُ الغرة، ونجمةُ السحور، ونجمةُ الصبح، وكذلك دربُ التبانة، نشاهدُها بمتعةٍ لا تُوصف، بينما نحن متدثرون تحتَ الأَغطية، ونائمون فوق سطوحِ بيوتنا، وتحت السماءِ مباشرة، فننامُ بعد سماعِ بعض الحكاياتِ من أُمي عن (جبينة)، أَو (الشاطر حسن)، أو (حدَدُون والغولة)، أَو حكاية (نص نصيص)، أَو (الحصيني وفروة العم أَبو حسن)، فننامُ وادِعين آمنين مُطمئِنين، إِلا من سطوِ الخفافيش الليليةِ، التي تتطايرُ وتنشطُ مع دخول العتمة، والتي كانت تتسللُ إِلَى أَرجلنا بينما نكون في (سابع نومة)، وتمصُّ حاجتَها من دمائِنا، لنكتشف صباحا عندما نستفيقُ بِأَن إِبليسَ قد أَحدثَ جرحًا تحت أَصابعِ أَرجُلِنا، ونسألُ بعضَنا، كم شقحًا أحدثَ إِبليس تحت أصابعِ رِجلِك؟ لم نكن نعرفُ أَن إِبليسَ يتمثلُ في الخفافيش التي تتغذَّى على دمائِنا، فقد تبرمَجنا على إِلصاقِ كلِّ رذيلةٍ، وكل شرٍّ، وكل فعلٍ قبيحٍ بإِبليس لعنة الله عليه، ومع هذا فلا نضجُّ أو نثور، إِنما نضحكُ ونفرحُ، ونشعرُ أَن الحياة كلَّها ضحكٌ ولعبٌ ومتعةٌ وسعادةٌ لا نهائية.
لم يكن همُّنا في العطلةِ الصيفيةِ المدرسيةِ إِلا أَن نبحثَ عن السعادة، حيث ننتظرُ ارتفاع قرص الشمس قليلًا في شاشةِ سمائنا الزرقاء، ونتوجه قاصِدين بِركةَ عين فارس، ومن ثم نتابعُ سَيْرَنا عبر سدرِ عين فارس، متوجِّهين إِلَى بِرَكِ وادي فكين؛ لنتعلمَ السباحةَ فيها، ومن ثم نعودُ أَدراجَنا مع استمرار بحثِنا عن أَعشاشِ عصافيرِ البلبل والحسون والحمر والقبر والقمحي والجعد والهدهد والخضر، على أَشجارِ الخوخِ والكرز والتفاح والسفرجل والتين والزيتون، وبين سنابلِ القمح، قاطعين جبلَ بور البغل؛ لنصلَ إِلَى عينِ الطاقة، ومغارة جبل ظهر المطارسية وشعب الجامع والمطابخ، ثم عين البلد، وجورة العرايس، التي كثيرًا ما حدثتنا جداتُنا عنها.
يُحكى أَنه في قديمِ الزمانِ؛
يتبع في الحلقة رقم (٢) غدا ان شاء الله .
تعليقات
إرسال تعليق