قصة قصيرة I الفصل الخامس
ودعت كل شىء ولم أأسى على شىء كل الحياة دخان يتباعد بلا تماسك ثم يتلاشى ؛ كل شىء أصبح خلف ظهري وأنا أقف فى مفترق ؛ مفترق الحياة الذي وجدتني فيه ؛ أرقب وحدي مصيري : إلى أين ؟! ؛ فى وحدة ووحشة تبطل الحياة ؛ سواء مع الأحياء أو مع الأموات ممن كانوا فى الحياة أو فى أي من العوالم الموازية لعالمي ، والتي كنت أحيا فيها عبر الزمن وعبر الأمكنة ، وبقيت فى وحدتي ووحشتي يمتلأ قلبي بالتوجس والخوف ؛ من حولي لا شىء واضح أو محدد أو منظور فى المدى أو من المحتمل أن يكون موجوداً ؛ وكأني صرت كتلة من الجماد منطلقة فى الوجود الذى لا أستطيع من خلال ما حولي وبحواسي أن أدرك مداه ؛ وكان ظني أني فى تلاشي ؛ وربما قد تدركني وقبل فنائي تماماً ؛ أن تدركني نفخة وجود جديد من خالقي فى حياة جديدة غير ما سبقها ؛ تأتي عبر روح محبة تشعر بشكل ما أني أغرق فى العدم وأني قد دب فى روحي الفناء ؛ وعدم الرغبة فى مزيد من الحياة كما جرت الحياة وكما عشتها وكما كانت هى .
وبدا لىّ أنني فى لحظات النهاية ؛ نهايتي وسط الوحشة والوحدة ؛ وحشتي أنا وحدي ؛ ووحدتي أنا وحدي ؛ دون باقي المخلوقات التى امتنع علىّ فى لحظتي تلك أن أعرف مصيرها أو أين هى فى الوجود ؟! .
بدا أنني فى لحظات نهاية النهاية ؛ وقتها كان يقيني أنني قد وصلت إلى نقطة التلاشي ولحظة النهاية التى فيها عدمي تماماً ؛ بعد فنائي وقد احترت ماذا علىّ أن أفعل إذا ما كانت هذه هى لحظات نهاية النهاية ؟! ؛ ماذا أفعل ليس لكى أمنع النهاية ؟! ؛ فهى ستحدث بإندفاعها هى لا برغبتي أنا ، وليس بإندفاعي أنا إلى النهاية !! النهاية حادثة حادثة لكوني من البشر لكوني من المخلوقات ؛ ولكوني من نوع المخلوقات المتمردة ولكن رفضي لنهايتي على هذا النحو وأن تكون وسط وحدتي ووحشتي ؛ رفضي كان لكوني لم تعجبني النهاية وفق واقعها الذى يتم على غير ما أردت وما أريد .
وكان ظني وفق وجودي الأول ، الذي أوقفه حقيقة أني موحش وحيد ؛ أن الأرواح المحبة الهائمة ؛ عادة ما تبحث عن أي صورة من صور التجلي والظهور لنا ؛ ولكن مضى زمن طويل منذ غادرتني آخر روح محبة ؛ ومنذ وقتها لم تظهر لىّ أي روح من أرواحي المحبة !! .
وقد صار لىّ زمناً وأنا فى وحشتي ؛ فأصبحت فى وحشتي وحيداً متعباً أبدياً ؛ بلا هداية أو ونيس ؛ أقف فى المفترق بلا حياة وبلا موت وبلا رغبة فى الحياة وأيضا بلا رغبة فى الموت .
وأصبح ظني الحاضر معي ؛ أن ما أنا فيه راجع لأني قد أفسدت على نفسي وجودي ولست فقط قد أفسدت على نفسي حياتي ؛ وإلا لماذا هذه الوحشة والبعد والوحدة ؛ حتى عن من ماتوا وغادروا الحياة ؟! .
لقد غشيتني حيرة فى وحدتي ووحشتي : ماهى طبيعتي الآن ؟! ؛ هل أنا حي ؟! ؛ هل تتسرب الحياة مني ولكني لزمن ما متناقص بالتسريب المستمر ؛ سوف أستمر فى الحياة ؟! ؛ منهكاً فاقداً قدرتي على استطعامها وفاقداً مذاقها ؛ أم هل أنا قد أصبحت ميتاً فى الحياة ؟! ؛ أم أني قد دخلت فى عالم الموت ؛ وما أنا فيه هو الموت الحقيقي ؟! .
ما كنت فيه ؛ لم يكن موتاً ؛ ولم تكن حياة ؛ لم يكن حلماً ؛ ربما كان تخلقاً من السكون أعلى هاوية العدم التى ليست تحت قدمي مباشرة ؛ ولكنها ليست بعيدة ؛ فهى حاضرة بحضورها إلى ذاكرتي ووعيي وخشيتي وسكوني ووقفتي فى وحدتي ووحشتي .
كان جسدي قد قُيد فى مرقدي وكأني مُت واقفاً ودفنت واقفاً ؛ وأن روحي قد انطلقت فى معراج الصعود المقيد فى وحدتي ووحشتي ؛ فمهما ارتحلت فهى لم تباعد وهى ملتصقة بما يشبه " جثماني الواقف " .
لقد تأكدت أنني لست ميتاً ، وأنني لم أفنى ؛ فمازلت تأتيني تدفقات الأفكار والتساؤلات !! وأني بالبحث سوف أجد وسيلة ما للعودة إلى الحياة التى لا تفنى أبداً ؛ وتتجدد بمجرد تخيل تجددها .
ولم يطل صبري فى وحدتي ووحشتي ؛ فقد حضرت لىّ بشارة ؛ بأن مواصلة الوجود فى الحياة ، وتكرار الوجود وعدم الفناء ممكن ؛ ولكن فقط علىّ أن أفتح قلبي لتلقي البشارة بتجدد طاقة الحياة الخاصة بىّ ؛ وقت أن تأتي الإشارة بأن الحياة دبت فىّ من جديد بإعادة شحن روحي بنفس القدر والقدرة من طاقة روحي التى كانت فى بطاقة روحي السابقة .
كنت في " الفصل الخامس" الطقسي ؛ من فصول الحياة الجديدة التى أصبحت فيها ؛ حيث لا علامة تُحدد المكان الذى أنا فيه ؛ ولا وقت يُحدد الزمن ، ولم يكن يتغير الوقت علىّ ؛ فلا فجر ولا شروق ولا صُبح ولا ظهيرة ولا غَسق ولا غروب ولا مساء ولا حُلكة الظلام ؛ فلم أكن أنا الثابت فقط !! ؛ بل الأرض والشمس والشموس والكواكب ؛ كل توقف عن الدوران وقد دخلوا فى مرحلة الثبات ؛ و تخلوا عن الحركة الطبيعية لهما وقد سكن الكون ، وبقى الوضع هكذا ؛ فلا كثافة إضاءة ولا إعتام ؛ فقط ضوء الرؤية ونور ثابت ؛ يكاد يكفي لإبصار مكان ثباتي على حالي .
منذ متى وأنا هنا وأنا هكذا لست أدري ؟! ؛ كيف سأبقى لست أدري ؟! ؛ لما سأبقى لست أدري ؟! أنا آخر ؛ بلا تكويني السابق ، لقد مُسحت ذاكرتي وعلىّ أن أكون ذاكرة جديدة تستوعب احتياجاتي الجديدة ؛ لو أردت أن أبقى على الحال التى أنا عليها ؛ والتى ليست هى حالة الإنفجار ، وهى أيضاً ليست حالة التمام .
فتشت عن أحلامي ؛ لا أي من أحلامي بىّ ؛ كلها ماتت أو تبددت ؛ أو ضاعت قبل أن أصل إلى أرض وحدتي ووحشتي هذي ؛ حيث الوجود قحط و لا شىء وأصبح الوهم أو الإلهام الباقي فىّ يخاطرني فى أرض وحشتي ووحدتي :
" لن تنمو الأحلام أو تتحقق إلا فى أرضها وفى منبتها الحقيقي ؛ وفى أرض زرعها المُنبت ومن زّرع أصحابها ؛ ولا يمكن زرع أحلام فى غير أرضها . لا تنمو الأحلام والآمال فى صحاح الأحلام ؛ إلا فى قلوب حية تنبض بالحياة وتعيش بقوة الإستمرار وبقوة القدرة على العيش فى الواقع مهما كانت قسوته وحاجته وشقائه " .
فى وحشتي ووحدتي واسيت نفسي :
" ليست أزمتي وحدي فى الحياة ؛ بل هى أزمة ومقتل وفناء ؛ كل من يشعرون ويتألمون لألم الآخرين الذين بدورهم لا يجدون من يتألم لآلامهم فصاروا فى الألم متحدون ؛ لا يفعلون شيئا لأنفسهم أو للآخرين . وأصبح يقيني أنه لا وسيلة لىّ للدخول إلى عالم الموجودات والإئتناس بباقي المخلوقات ؛ إلا بإعادة التخلق فى رحم ما ؛ وأن تربطني بالحياة مشيمة إلى أن يحين آوان العودة ، ولكن كيف اليقين والحصول على الإجابة بأن ذلك ممكن وأن العمر ينقص ويزيد ، وأن العمر ينفد ويتجدد ؟؟ .
فى وحدتي ووحشتي ؛ لما أردت أن أبكي على نفسي ومن حالي ؛ اكتشفت أني فى وحدتي بلا زاد من دموعي ؛ وأنه لا دموع داخلي ، وقد تحيرت فى فهم وتفسير عدم وجود الدموع لحظة أردت أنا أبكي ؛ فإما قد جفت الدموع بداخلي وإما أن " مكابح الدمع " لدىّ قد أصبحت لا تعمل !!
ومن فوري أدركت أني لا يمكن أن أبقى فى وحدتي ووحشتي دون إصلاح هذا الخلل القاتل فى صميم كينونتي ؛ فإما سأصاب بجفاف الدمع الأبدي ؛ وإما سأصاب بالتسمم نتيجة عدم وجود الدمع بالجسم ليخفف ويداوي الممكن من الأحزان ؛ كوني وحيداً فى وحشتي ؛ على مفرق ؛ فى إنتظار أن يتذكرني أحد من أمواتي فيأتي ليوأنسني .
5
فى مفترقي وأثناء وحدتي ووحشتي ؛ لقد اختفت الفصول الطقسية الأربع من قلبي ؛ اختفت فصول السنة الأربع وحل محلها " الفصل الخامس " حيث لا ربيع ولا صيف ولا شتاء ولا خريف ؛ وأصبح حال الطقس هو " الفصل الخامس " الذى هو كل الفصول وهو أيضا اللا فصل واللا شىء ؛ فقد أصبح الجو من حولي فى ذلك الإمتداد السرمدي ؛ هو كل هذا فى ذات اللحظة ؛ من ذلك التقلب الجوي الذي أصبح يحدث من حولي فى وحدتي ووحشتي :
"من قام بتفكيك الكون فى قلبي ؟! ؛ ومن قام بتفتيت الكون فى وعيي ؟! ؛ ومن حذف الفصول الأربعة من الطبيعة واستبدلها بالفصل الخامس ؟! ؛ بل من الذى ألغي "طبقة البلسم " من الغلاف الجوي ؛ فأصبحت الخشونة هى اللاصق لتركيب الأشياء ببعضها حتي أصبح الفصل الخامس هو الملغي للفصول الأربعة وأصبح هو الفصل الموجود لكي يحيا فيه الأحياء واللا أحياء ؟! . وحيث أصبح " فرج " المرأة هو الثقب الأوسع فى الطبيعة والذى لا يفضي إلى شىء ؛ لا يفضي إلى الرحم ؛ ولا يفضي إلى اللذة المعتادة التى تتجدد بها الحياة ويصبح الوجود واقعاً ؛ فكل محاولات تجميل القالب الشكلي للإنسان عبث وتضيع الحياة ومعناها الحقيقي ؛ فى حين أن الروح تستجيب لكل " شهيق " للجمال فى سهولة ويسر وتعكسه فى مدى لا محدود من الكون " .
كنت قبل وحشتي ووحدتي أدرك أن دورة الفصول الطقسية الأربعة تحدث ؛ لكى يستنفد الإنسان عمره ، ويشعر أن عمره يُستنفد ؛ ولكن أن تلغى الفصول الأربعة ؛ وتُستبدل بالفصل الخامس ؛ ويصبح لا تداول للفصول ؛ فمؤكد أن هذا هو الموت الذى ليس فيه تنوع الحالات ؛ بل هو فصل واحد ، لا يحدث فيه إلا فناء صغير للفصل ، والذى يكبر حجمه بفناء الفصول الأربع ؛ ثم يتكرر توالي فناء الفصول حتى يحدث فناء عمر الإنسان بتكرار فناءات الأعوام كل حسب عمره .
رويداً رويداً أتي العالم وتخلق من حولي ؛ ليس الوجود الذي كنت فيه سابقاً ؛ بل وجوداً آخر ؛ بلا بشر أو أناس ولكن أصنام على هيئة البشر ، وفى أوضاع البشر ؛ ولكنها لا تتحرك ؛ هى فى أوضاع ثابتة وجوداً صنمياُ ؛ كائناته من "الأصنام البشرية " . وكذلك كان الجو والهواء الساكن بلا حركة فكأنه أيضاً " هواءً صنمياً ؛ لا يتنفسه أحد ؛ ولا يدخل رئة أحد ولا يخرج من رئة أحداً ؛ فالجو أصبح كالخلفية المرسومة والمشهد غير متحرك والإضاءة ثابتة .
أتى عالم آخر شبيه بما كان وعرفته سابقاً ؛ فقد أتت الشوارع بلا أبنية وأصبح فى الجو عصافير " صنمية " ثابتة بلا طيران وطائرة بلا حركة ؛ فهى ثابتة فى حركتها !! .
ولكنه كان عالم ؛ أفضل من العدم واللا وجود الذى أفقت على تأملي موجوداً فيه ؛ فى وحدة وفى وحشة بلا أي شىء .
كان علىّ أن أمشي فوق الخط الذى يعلو العدم والفناء ، إلى أن أصل إلى الوجهة الأخرى التى لاح لىّ أن فيها النجاة وفيها الحياة ؛ وفيها الخلود فى الحياة .
ووجدتني أمشي نحو ما ظننته أنه النجاة ؛ أمشي على خيط القدر الرفيع جداً والحاد ؛ أمشي أسفلي هوة سحيقة بلا قاع ؛ لو سقطت ضاع ما مضى من عمري وصرت رماداً محترق ؛ ففى هوة الحياة من أسفل ؛ أكثر من بركان يتلقف الذين يسقطون من علو إرتفاع خيط القدر .
كنت قد شعرت أني بدأت فى التحول من كائن ؛ إلى وجود على وشك أن يبتلعه العدم ؛ إن لم تنقذني قوة ما أكبر من قدرة العدم على إبتلاعي . أدركت للحظة أن يداً امتدت لىّ تتحسس مكان النزف ؛ وقد كنت قد كتمت فى وحشتي ووحدتي ؛ السائل النازف ، بعد أن خلعت قميصي في آخر وعى لىّ قبل غيبوبتي ؛ وقد حشرت جزءاً من القميص فى فتحة الجرح النازف ؛ ولا أذكر شيئاً بعد أن فعلت ذلك فى لحظة إفاقة وقد نسيت أي شىء تم بعدها .
لقد نسيت رحلة وحشتي ووحدتي داخلي ؛ تلك التى اهتديت أخيراً أنها على الأرجح قد تمت داخلي أنا ؛ ليس فى مكان آخر أو فى زمن آخر ؛ قوة ما وقدرة ما ؛ مَسْحت من الرحلة بعض الأشياء ؛ أنستنيها عمداً ؛ أعرف مكان وتسلسل وجودها فى " القصة " ولكني لا أعرف تفاصيلها ؛ هى كتلة غير مكشوفة ولا يمكن الدلوف إلى تفاصيلها ولا يمكن تفكيك مكنوناتها ؛ هى حدثت حيث حدثت ولكن ستظل كتلة صماء ضمن تفاصيل "الفصل الخامس" الذى أصبح بديلا عن تداول الفصول الأربع للطقس .
لقد أتت بيّ رغبة ما أو قوة ما إلى مكان وحشتي ووحدتي وهى الوحيدة التى يمكن أن تردني إلى عالمي . ولست أدري أأسري بىّ إلي مكان وحدتي ووحشتي ؛ حيث وجدتني فى تجربة " وجودي العدمي " أم أن حلماً من الأحلام سحبني إلى هذه اللا أرض وهذا اللا زمن ؛ وتلك الحالة التي وجدتني موحشاً فيها ؛ أخوض تجربة رؤية العدم ؛ إذا ما صار الوجود إلى العدم ، ووجدتني أصل إلى الحل الذى أتى ميسوراً بوحي البشارة ؛ أتى فى سهولة وصار أكثر سهولة عندما تخيلت أنني قد شرعت فى السير فيه ؛ وعندها قلت ليّ : "لماذا لا أفتش عن خالقي ، الذى أوجدني فى الأصل ؟! ؛ ربما تكون تجربة الوحدة الموحشة ليست إلا إختباراً لاكتساب القدر النهائي من المعرفة لأوجد ، ولابد أن تكون هذه تجربة مكتوبة لىّ فى قدري الذى سطره خالقي !! . إن الله لا يكف عن أن تكون أنت قطعة منه ؛ بل أنت الذى تكف عن أن تكون قطعة من خالقك العظيم ؛ خالق كل المخلوقات والكون اللا نهائي ؛ فهو إله لا نهائي " .
لقد تدفق علىّ فى إفاقتي سيل من أفكاري السابقة عن "الكوني المتمرد" والصيغة المشوشة لديه عن جهنم وعذاب جهنم ؛ والتي لا تفي بالحقيقة ، والتى لا تفصل بين " الكوني الطائع " المنسجم مع خالقه ؛ والكوني المتمرد الذى فصل نفسه عن الخالق بتمرده ، وهو الجاهل بحقيقة الخالق !!
وقلت ليّ أيضاً : "كل الماديات إن لم تثري روحك وتوسع إيمانك بعظمة خالقك على صورته ؛ فهى مهلكة لك وعليك ألا تسعى لها ؛ فهذا المسعى طريق سريع إلى الجحيم الأبدي بكونك غير طائع لخالقك" .
محمد الصباغ
تعليقات
إرسال تعليق