التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بقلم الرائع أ/علي الحسيني المصري/////


الكابوس

عندما نزحت رأفة هي وزوجها من الصعيد في فترة الأربعينات سكنت هي وزوجها في حجرة بدروم بأحد البيوت في حي من أحياء قاهرة المعز . وكم كان يفزعها منظر الجنود الإنجليز وهم يروحون جيئة وذهابا بالشارع التي كانت تقطن فيه.. فقد كانت تراهم وهي تنظر من وراء شيش شبكاها الخشبي ولكن كان هناك ما يزعجها أكثر من الجنود الإنجليز وكانت تخفيه عن زوجها بقدر الإمكان حتى لا تزعجه وكان زوجها مقاول عمل شاق وهو صناعة الأبواب والسياج والشبابيك الحديد التي كانت مطلوبة جدا في ذلك الزمان الجميل
ولكن رأفة كان يهاجمها كابوس كل يوم في منامها فيشل حركتها ويكبس على أنفاسها حتى أنها احست في كثير من المرات انها فقدت حياتها وأن أنفاسها قد انقطعت تماما ولا تعرف غير أنها ظلت تصرخ في خلدها بأية الكرسي حتى فك اغلالها هذا الكابوس وعادت إليها الحياة رويدا رويدا. فقامت فزعة وهي تلهث وحدث بعد ذلك أن مرضت مرضا شديدا وكانت تحس بالهلع والخوف فسألها زوجها وشدد عليها السؤال
بأن استحلفها بحبه لها وحبها له أن تصدقه القول وتريحه من حيرته وقلقه عليها
ولم تجد بد إلا أن تحكي لزوجها ما كان يحدث معها فلم يصدقها في أول الأمر ولكنه
طلب منها أن يستبدلا مكان النوم على الفراش فوافقت وما كان من أمر زوجها إلا أنه حدث معه نفس الأمر فقام فزعا وهو يردد بعض آيات القرآن الكريم وعندما أشرق الصباح صعد لصاحب المنزل وطلب منه أن يعفيه من السكنى عنده وحكي له ما جرى له هو وزوجته فما كان من صاحب البيت إلا أن قال في حزن شديد هذه بهيرة!!
وانا اعفيك يا ابو درش من العقد الذي بينا وانت حر في أن تذهب أو أن تقيم فقال الساكن وكان اسمه المعلم مصطفى
اطلب فقط مهلة اسبوع حتى أجد مسكنا آخر فقال صاحب المنزل وكان اسمه الحج عبد الجواد لك شهر لا تدفع آجرته انت وزوجتك اعتذارا وتعويضا لكما عما حدث لكما بسبب السكنى عندي
فقال مصطفى : حاشا لله يا حج. أن أقبل تعويضا عن أمر لا يد لك فيه يا حج فقال الحج بحزن ومن يدريك فلعله كان لي يد به. لا اسامح نفسي عليها ابدا
فاندهش مصطفى جدا من كلام الحج عبد الجواد
ووجد نفسه ينطق متسائلا. من بهيرة يا حج؟
نظر إليه الحج متأملا. ومترددا ثم قال. كانت بهيرة ضحية الأقدار   فقال مصطفي كيف  فقال الحج كان ذلك ايام الحرب الكبرى منذ  خمسة وعشرين عاما  وكان هذا البيت وما حوله خرائب لا أحد يقيم بها  وكان البيت  يتكون من حجرتين غير مسقوفتان 
وفي ليلة شديدة الظلمة تم  اختطاف بهيرة  بواسطة بعض السفلة ثم اقتادوها إلى هذا البيت فقاموا باغتصابها وبقروا بطنها  ووضعوها في جوال ثم دقوا مسمار بالحائط وعلقوا الجوال به  حتى يتخلصوا من جثتها في الصباح ويبدو انهم فعلوا ذلك لأنهم كانوا في حالة ثمالة شديدة ولو أنهم انتبهوا لكانوا دفنوها تحت أقدامهم وما كان سيعرف احد بعد مدة. ولكن الله كان قد أعمى بصيرتهم وبصرهم  لأنه حدثت أمور بعد ذلك كشفت أمرهم جميعا في وقت الفجر. إذ أن الفتاة صرخت  صرخة شديدة عندما بقروا بطنها فسمعت تلك الصرخة في كل الحي فانطلق الفتوة هو وأعوانه نحو  مكان الصرخة وأمسى البعض يقول  سمعناها من هنا  وآخرين يقولون بل من هنا وكان الفتوة رجلا فطنا وصالحا فقال لهم قسموا أنفسكم لمجمعوتين ولنتبين الأمر فمن وجد شيئا أرسل للآخر يخبره ويطلب عونه لذلك وجد المغتصبون أنفسهم محاصرين بين حجري رحى من أهل الحي ولم تمر ساعة  إلا وتم القبض على أحدهم وكانت ملابسه ملوثة بالدماء فسألوه عن شخصه ومن أين أتى وما تلك الدماء فلما اعياهم ضربوه ضربا شديدا 
فاعترف بجريمته هو ومن معه وأرشد عن جميع كل من كانوا معه  فاقتداهم الفتوة والأهالي للشرطة التي تولت امر التحقيق معهم ومن ثم إحالتهم للمحاكمة. وكان البيت ملك جدي في هذا الوقت  ولقد ورثته بعد الحادثة بخمسة عشر عاما فقمت بإصلاحه وعشت به انا وزوجتي  وكنت أعلم بالجريمة التي حدثت به... 
فلما أتم الحج عبد الجواد قصته  قال مصطفى أراك تلوم نفسك على ما حدث لها  والأمر كله ليس لك فيه يد وكان قدرا مقدورا 
فتنهد الحج عبد الجواد وقال . بل كان الأمر كله بسببي يا راجل يا طيب   فقال مصطفي كيف ذلك يا حج ؟ 
فتنهد  عبد الجواد وقال كنت أنا وبهيرة متحابان منذ صبانا وتقدمت لخطبتها   وكنت ازورهم ببيت والدها وكان عندهم ابن خالتها ويومها تكلم معها أمامي بما آثار  غيرتي وكان لا يقصد ولكن الغيرة عمياء.. 
فصببت جام غضبي عليها  وانا خارج من عندهم  ثم مضيت مسرعا  بعد أن قلت لها وانا في ذروة الغضب أننا لن ننفع مع بعض وكنا وقتها اول الليل 
ولم تعرف المسكينة ماذا تقول أو تفعل إلا أنها أخذت برقعها وجرت ورائي لتبحث عني لتجدني وترضيني ولكني كنت قد اختفيت عن ناظريها وذهبت لبيت احد اصدقائي وكان هذا الصديق أعز من اخي أحدثه بفرحي وأبث له همي 
وكانت ليلة من ليالي الشتاء شديدة الظلمة ثم تساقطت بها الأمطار بها بشدة وكان هناك رعودا وبرقا فانقطع الناس عن المرور بالشارع 
وأعيا بهيرة البحث عني ولم تجدني 
فاصدمت بهولاء السفلة وهي راجعة نحو بيت أبيها 
ففعلوا بها  ما فعلوا  وانهمرت الدموع على وجه الحج عبد الجواد  وهو يقول يا ليتني تعقلت في هذه الليلة ولم اصب جام غضبي على تلك البائسة المسكينة 
نظر الحج مصطفى  للأرض  ثم رفع وجه وقال شاء الله وما قدر فعل  وإنا لله وإنا إليه راجعون  لا عليك يا حج أنت كنت شاب وقتها والشباب فوار وغضب.. 
ثم قام فجأة  وهو يقول  يبدو اني سأستمر في السكنى عندك يا حج  وأنه ستكون أخوة وعشرة وصداقة طويلة بإذن الله 
رفع الحج راسه وهو جالس . إلى مصطفى وهو واقف متسائلا فابتسم مصطفى وكأنه يطمئنه ثم ربط على كتفه بحنو ليهدأ روعه... 
فنهض الحج واحتضن مصطفى وهو يبكي بصوت عالي.. 
ترك مصطفى الحج ونزل حيث زوجته فسامرها وتضاحكا حتى وقت متأخر من الليل  فلما  أدرك قرب صلاة الفجر  توضأ وقام للصلاة  ثم نام في نفس مكان الليلة الماضية فهاجمه الكابوس كعادة كل ليلة فصلى على النبي وال بيته وقرأ اية الكرسي ثم قال في حلمه سيدتي كم أحبك الحج عبد الجواد وما زال يحبك وكم يؤلمه ما حدث لك ولكن أمر الله نافذ . هو قال لي أنه احبك وسيظل يحبك إلى الأبد وسيبقى حبكما خالدا فظهرت فتاة كأنها بدر في حلمه وقالت له اما زال عبد الجواد يذكرني فقال نعم فقالت إذن احملك السلام أمانة له  ولك مني أن لا اضايقك بعد اليوم انت وزوجتك فقال مصطفى يصل سلامك إن شاء الله ثم اختفت الفتاة واستيقظ مصطفى 
وحدث بعدها أن شفيت رأفة زوجة مصطفى ولم يهجامها الكابوس لا هي ولا مصطفى بعد ذلك اليوم   ثم فتح الله على
مصطفى وصار  من أكبر المقاولين فسكن في الطابق العلوي بجوار الحج عبد الجواد لأنهما صارا أكثر من أخوة حتى أنهما أشتركا معا في الجهاد ضد المحتلين 
وحدث في ليلة أن تربصوا لجندي انجليزي كان عتيدا في الإجرام وكان يغتصب النساء ويضايق المارة في الليل 
ولما جىء بالجندي وتم قتله أراد الحج عبد الجواد أن يدفنه في البدروم حيث قتلت بهيرة واغتصبت فقال مصطفى للحج عبد الجواد  حسبك لا يجاور المجرمون شهداء الحب ابدا 
فبكى عبد الجواد وقال كنت أنا أولى أن أقول ذلك ولكن الجهاد في سبيل وطني وأهلي أنساني فقال مصطفى هي لك وستظل لك إلى الأبد فلا تحزن يا حج  وفي تلك الليلة أتت بهيرة لمصطفى في المنام وكأنها حورية من حوريات الجنة وقالت له 
أبشر يا مصطفى بالشهادة بعد حين وأقرأ الحج عبد الجواد السلام  ويقولون ان في اليوم التالي حدث اشتباك بين سرية انجليزية 
استشهد في هذا الاشتباك المعلم مصطفى والحاج عبد الجواد  وكان كل منهما يزود عن الآخر  ويزود عن دينه ووطنه وتوفت رأفة بعد مصطفى بشهور بسبب حزنها عليها 
ومن يومها وبهيرة  تظهر في الليالي المظلمة في شكل طفلة ترشد كل فتاة ضلت طريقها بالحارات المظلمة لتمشي في النور والونس ولا تمشي في الظلام وقالت لفتاة 
أن أمضي في هذا الطريق ولا تمضي من هذا الطريق 
واقرئي رأفة و مصطفى وعبد الجواد السلام 

بقلم على الحسيني المصري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بقلم الرائع أ/شوكت صفدي/////

"... نسيت وجعي، تعطر حزني بالحرية، نأيت عن أزمنة الشقاء، أزمنة الموت قهراً، وتوقفت معك لحظات الحلم، مبللين بأمطار تشرين ورعود تشرين ورياحه ووريقاته فوق قارعة الطريق القديمة، وعطره الخريفي.. وكانت جميعها تعزف موسيقا رقصتنا !.. جزء مني عاد إلى جسدي، وظل جزئي الآخر يرقص بين أطيافك.. سألتني أن نجعلها ألف عام قادمة.. وقلت، بل أريدها أن لا تنتهي خلود الزمن... لم تنقطع موسيقى الوجود لحظة، ولم ينقطع عزيف المطر والريح فوق النافذة، ونيران الموقد لم تخمد جواري... ومراهقتي التي هربت زمناً، ها هي تركض فوق الطرقات عائدة إلي، ترقص تحت المطر.. وشبابي المهاجر يستقبلني بشعر أشقر.. وطفلي الضائع في الغربة، يرجع من الفرار الى صدري، وإلى حضن وطن.. " يا عطر " . " عطر خريفي : من رواياتي "

بقلم الرائع أ/محمود عمر/////

«شرفة العمر الحزين» *********** عشت عمري كله شتاء وخريف وظللت أحلم كل يوم أن يأتي الربيع وطال بي الانتظار في شرفة العمر الحزين أتدثر بالأمل كلما اشتد بي الصقيع وكلما مر عام أنتظر البشارة تأتي في عام جديد يأتي فيه الربيع مرت الأعوام تباعاً عام خلف عام خلف عام والأيام تزداد قسوة والعمر شيء فظيع كم تمنيت أن يسرع الخطى ولكن الأمنيات عندي مستحيلة في زمن القساوة شنيع لم تشفع عنده طيبة القلب... ولا طيلة الصبر على الأحزان... ولا كثرة جروح الروح وآلام القلب وكأن الفرح علي منيع...!! حتى جاءني سهم الموت في وتين القلب من سند الحياة ممن ادخرته للأيام عوناً وليت الموت وقيع  لأذوق الموت مراراً  وطعم السكرات مرير...!!  أيا موتاً يأبى  يقربني  ألا لك من سبيل أسلكه...؟!  أو باباً أكون له قريع...؟!  لأترك دنيا نكرتني  فكرهت كل ما فيها  فكل ما فيها وضيع  فامدد يدك بكأس المنايا  فكم تجرعت أمر منه...!!  ولم أشتك يوماً  وكن معي خير صنيع...!!  محمود عمر

بقلم الرائع أ/عبد الرحمن القاضي/////

"غَزَليَّة" في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا نَدنوْ مِنْهُ ولا يأتيْنا نُهدِيْ عِطْرَ الحُبِّ إلَيْهِ ويُعَشِّمُنا ويُمَنّيْنا فَرْدٌ مِنْ عائِلَةِ الوَرْدِ يَنْضَحُ فُلّاً أو ياسَميْنا يَضْحَكُ إنْ قد كُنْتُ سَعيداً أو يَبْكِيَ إنْ صِرْتُ حَزيْنا ما في قَلبِيَ إلّا أنْتَ أمّا غَيْرُكَ لا يَعْنيْنا في الشامِ غَزالٌ يُغريْنا... ! #عبدالرحمن_القاضي